الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5192 - وعن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث طعام ، وثلث شراب ، وثلث لنفسه " رواه الترمذي وابن ماجه .

التالي السابق


5192 - ( وعن المقدام بن معدي كرب ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما ملأ آدمي وعاء ) أي : ظرفا ( " شرا من بطن " ) : صفة وعاء ( " بحسب ابن آدم " ) : مبتدأ والباء زائدة ، وقوله : ( " أكلات " ) : بضمتين خبره نحو قوله : بحسبك درهم ، والأكلة بالضم اللقمة . وفي رواية : لقيمات بالتصغير للإشارة إلى التحقير ، مع الدلالة على التقليل بالتنكير . ( " يقمن صلبه " ) أي : ظهره لإقامة الطاعة وقيام المعيشة ، وإسناد الإقامة إلى الأكلات مجازية سببية ، ( " فإن كان لا محالة " ) : بفتح الميم ، ويضم أي : لا بد من الزيادة ( " فثلث " ) : بضمهما ويسكن اللام ( " طعام " ) : مبتدأ وخبر أي : ثلث منه للطعام ، وكذا قوله : ( " وثلث شراب " ) : واللام مقدرة فيهما لقرينة قوله : ( " وثلث لنفسه " ) : بحركتين ، والمعنى فإن كان لا يكتفي بأدنى قوت ألبتة ، ولا بد أن يملأ بطنه ، فليجعل ثلث بطنه للطعام ، وثلثه للشراب ، وليترك ثلثا خاليا بخروج النفس ، ولا ينبغي أن يكون كطائفة القلندرية حيث يقولون بملء البطن من الطعام والماء يحصل مكانه ولو في المسام والنفس إن اشتهى خرج وإلا فلا بعد تمام المرام ، فأولئك كالأنعام بل هم أضل قال تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون وسبق : " إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " .

وقال الطيبي رحمه الله أي : الحق الواجب أن لا يتجاوز عما يقام به صلبه ليتقوى به على طاعة الله ، فإن أراد ألبتة لتجاوز فلا يتجاوز عن القسم المذكور ، جعل البطن أولا وعاء كالأوعية التي تتخذ ظروفا لحوائج البيت توهينا لشأنه ، ثم جعله شر الأوعية لأنها استعملت فيما هي له ، والبطن خلق لأنه يتقوم به الصلب بالطعام وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا ، فيكون شرا منها .

قال الشيخ أبو حامد : في الجوع عشر فوائد . الأولى : صفاء القلب وإيقاد القريحة ونفاذ البصيرة ، فإن الشبع يورث البلادة ، ويعمي القلب ، ويكثر البخار في الدماغ ، كشبه الشبكة حتى يحتوي على معادن الفكر ، فيثقل القلب بسببه عن الجولان . وثانيها : رقة القلب وصفاؤه الذي به هيئ لإدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر . وثالثها : الانكسار والذل وزوال المطر والأشر والفرح الذي هو مبدأ الطغيان ، ولا تنكسر النفس لشيء ولا تذل ، كما تذل بالجوع ، فعنده تستكن لربها وتفيق على عجزها . ورابعها : أنه لا ينسى بلاء الله وعذابه وأهل البلاء ، فإن الشبعان ينسى الجائعين والجوع . وخامسها : وهي من كبار الفوائد كسر شهوات المعاصي كلها ، والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء ، وتقليلها يضعف كل شهوة وقوة والسعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه ، والشقاوة في أن تملكه نفسه . وسادستها : دفع النوم ودوام السهر ، فإن من شبع شرب كثيرا ، ومن كثر شربه كثر نومه ، وفي كثرة النوم ضياع العمر ، فوات التهجد ، وبلادة الطبع ، وقساوة القلب ، والعمر أنفس الجواهر ، وهو رأس مال العبد ، فيه يتجر ، والنوم موت فتكثيره تنقيص من العمر . وسابعتها : تيسير المواظبة على العبادة ، فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات ; لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل بالأكل ، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام أو طبخه ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلاء ثم يكثر تردده إلى بيت الماء ، ولو صرف هذه الأوقات في الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه . قال السري : رأيت مع علي الجرجاني سويقا يستف منه فقلت : ما دعاك إلى هذا ؟ فقال : إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة . وثامنتها : من قلة الأكل صحة البدن ، ودفع الأمراض ، فإن سببها كثرة الأكل ، وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق ، ثم المرض يمنع عن العبادات ، ويشوش القلب ، ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب ، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ، وفي الجوع ما يدفع عنه كل ذلك . وتاسعتها : خفة المؤنة فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير . وعاشرتها : أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على المساكين ، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته ، فما يأكله فخزانته الكنيف ، وما يتصدق به فجزاؤه فضل الله تعالى . ( رواه الترمذي ، وابن ماجه ) : وفي الجامع : رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم بلفظ : " فثلث لطعامه وثلث لشرابه " .

[ ص: 3252 ]



الخدمات العلمية