الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1100 [ 568 ] وعن عمران بن حصين قال : كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له ، فأدلجنا ليلتنا ، حتى إذا كنا في وجه الصبح عرسنا ، فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس . قال : فكان أول من استيقظ منا أبو بكر ، وكنا لا نوقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منامه إذا نام حتى يستيقظ ، ثم استيقظ عمر ، فقام عند نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يكبر ، ورفع صوته حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال : ارتحلوا ! فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة ، فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا ، فلما انصرف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا فلان ، ما منعك أن تصلي معنا ؟ قال : يا نبي الله ، أصابتني جنابة ولا ماء ! فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتيمم بالصعيد فصلى ، ثم عجلني في ركب بين يديه نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا ، فبينا نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين ، فقلنا لها : أين الماء ؟ فقالت : أيهاه أيهاه ، لا ماء لكم ! فقلنا : فكم بين أهلك وبين الماء ؟ قالت : مسيرة يوم وليلة . قلنا : انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالت : وما رسول الله ؟ فلم نملكها من أمرها شيئا حتى انطلقنا بها ، فاستقبلنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها ، فأخبرته مثل الذي أخبرتنا ، وأخبرته أنها موتمة لها صبيان أيتام ، فأمر براويتها فأنيخت ، فمج في العزلاوين العلياوين ، ثم بعث براويتها ، فشربنا ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا ، وملأنا كل قربة معنا وإداوة وغسلنا صاحبنا ، غير أنا لم نسق بعيرا ، وهي تكاد تنضرج من الماء - يعني المزادتين ، ثم قال : هاتوا ما كان عندكم ! فجمعنا لها من كسر وتمر ، وصر لها صرة فقال لها : اذهبي فأطعمي هذا عيالك ، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك . فلما أتت أهلها قالت : لقد لقيت أسحر البشر ، أو إنه لنبي كما زعم ، كان من أمره ذيت وذيت - فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة ، فأسلمت وأسلموا .

                                                                                              وفي رواية : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فسرينا ليلة ، حتى إذا كان من آخر الليل قبيل الصبح وقعنا بتلك الواقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها ، فما أيقظنا إلا حر الشمس .

                                                                                              وفيها : فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس ، وكان أجوف جليدا ، فكبر ورفع صوته بالتكبير ، حتى استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة صوته ، فلما استيقظ رسول الله شكوا إليه الذي أصابهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضير ، ارتحلوا ! واقتص الحديث .

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 434)، والبخاري (344)، ومسلم (682) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله في حديث عمران " فأدلجنا ليلتنا " ; أي سرنا ليلتنا كلها ، يقال [ ص: 319 ] أدلج - بقطع الألف وسكون الدال ; أي سار الليل كله ، يدلج إدلاجا . وادلج - بوصل الألف وتشديد الدال : سار من آخره . وقد قيل : هما بمعنى واحد . والتعريس في أصله : النزول من آخر الليل ، وقد تقدم . وبزغت الشمس ; أي : بدأ طلوعها .

                                                                                              وقوله " وكنا لا نوقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منامه " ، إنما كان ذلك لأنه كان يوحى إليه في النوم ، فكان يخاف أن يكون إيقاظه قطعا للوحي وتشويشا له .

                                                                                              وقوله " ثم عجلني " مشدد الجيم ; أي أمرني بالاستعجال ، وأكده علي .

                                                                                              وقوله " فإذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين " ; سادلة أي مرسلة ، وكذلك رواية الجماعة . وللعذري " سابلة " بالباء بواحدة ، والأول أصوب ; لأنه لا يقال سبلت ، إنما يقال أسبلت . والمزادتان : القربتان ، وقيل : المزادة القربة الكبيرة التي تحمل على الدابة ، سميت بذلك لأنه يزاد فيها جلد من غيرها لتكبر .

                                                                                              وقولها " أيهاه أيهاه " ، كذا روي هنا بالهمزة في أولهما وبالهاء في [ ص: 320 ] آخرهما ، وتروى بالتاء أيضا في آخرهما ، وهي هيهات المذكورة في قوله تعالى : هيهات هيهات لما توعدون [ المؤمنون :36 ] ; أبدلت الهاء همزة ، ومعناها البعد ، والهاء في آخرها للوقف . وقيل : هي مركبة من " هي " للتأسف و " هاوه " للتأوه ، فقلبت الهاء في الوصل تاء ثم حركت بالفتح والضم والكسر ، وقد قرئ بها في قوله تعالى : هيهات هيهات وهي اسم من أسماء الأفعال ; فتارة تقدر ببعد كما في قول الشاعر :


                                                                                              فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خل بالعقيق نواصله



                                                                                              أي : بعد العقيق وأهله . وتارة تقدر ببعد الذي هو المصدر ، كما قيل في قوله تعالى : هيهات هيهات لما توعدون [ المؤمنون :36 ] ; أي : بعدا بعدا للذي توعدون ، هي حكاية عن قول الكفار .

                                                                                              ومؤتمة - بكسر التاء ; أي : ذات أيتام . وراويتها هنا الجمل الذي تستقي عليه الماء ، وهذه رواية الجماعة ، وعند السمرقندي " فأمر براويتيها " وكأنه أراد المزادتين ، وفيه بعد من جهة اللفظ .

                                                                                              وقوله " فأنيخت فمج " ; أي طرح من فيه فيهما ، ومعناه : وبزق فيهما . والعزلاوان قال ابن ولاد : العزلاء بالمد عزلاء المزادة ; وهي مخرج الماء منها . وقال الهروي : هو فوها الأسفل . والذي في الكتاب يشهد لما ذكره ابن ولاد .

                                                                                              [ ص: 321 ] وقوله “ وغسلنا صاحبنا " ; أي أعطيناه من الماء ما يغتسل به ، وهو مشدد السين .

                                                                                              وقوله " وهي تتضرج من الماء " ، كذا عند ابن ماهان بتاءين وبـ " من " ، وعند الجماعة " تنضرج بالماء " ، وهي بمعنى واحد ; أي : تقارب أن تنشق من الامتلاء .

                                                                                              و " لم نرزأ " ; أي لم ننقص ، ومنه قولهم : ما رزأته زبالا ; أي : ما نقصته .

                                                                                              و " ذيت وذيت " ; أي : كيت وكيت ، وهو كناية عن حديث معلوم .

                                                                                              والصرم بكسر الصاد ، قال يعقوب : هو أبيات مجتمعة .

                                                                                              ولا يخفى ما تضمنه هذا الحديث من الأحكام ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن حديث عمران بن حصين نازلة أخرى غير ما تضمنه حديث أبي قتادة .

                                                                                              [ ص: 322 ] وقوله “ لا ضير " ; أي : لا ضرر ، وقد تقدم في كتاب الإيمان .




                                                                                              الخدمات العلمية