الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية أبي جعفر عمر بن حفص إفريقية .

في هذه السنة استعمل المنصور على إفريقية أبا جعفر عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب ، وإنما نسب [ إلى ] بيت المهلب لشهرته .

وكان سبب مسيره إليها أن المنصور لما بلغه قتل الأغلب بن سالم خاف على إفريقية ، فوجه إليها عمر واليا ، فقدم القيروان في صفر سنة إحدى وخمسين ومائة في خمسمائة فارس ، فاجتمع وجوه البلد فوصلهم وأحسن إليهم ، وأقام والأمور مستقيمة ثلاث سنين .

فسار إلى الزاب لبناء مدينة طبنة بأمر المنصور ، واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي ، فخلت إفريقية من الجند ، فثار بها البربر ، فخرج إليهم حبيب فقتل ، واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم الإباضي ، واسمه يعقوب بن حبيب مولى كندة .

وكان عامل عمر بن حفص على طرابلس الجنيد بن بشار الأسادي ، وكتب إلى عمر يستمده ، فأمده بعسكر ، فالتقوا وقاتلوا أبا حاتم الإباضي ، فهزمهم فساروا إلى قابس ، وحصرهم أبو حاتم وعمر مقيم بالزاب على عمارة طبنة ، وانتقضت إفريقية من كل [ ص: 169 ] ناحية .

ومضوا إلى طبنة فأحاطوا بها في اثني عشر عسكرا ، منهم : أبو قرة الصفري في أربعين ألفا ، ( وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفا ) وأبو حاتم في عسكر كثير ، وعاصم السدراتي الإباضي في ستة آلاف ، والمسعود الزناتي الإباضي في عشرة آلاف فارس ، وغير من ذكرنا .

فلما رأى عمر بن حفص إحاطتهم به عزم على الخروج إلى قتالهم ، فمنعه أصحابه وقالوا : إن أصبت تلف العرب . فعدل إلى إعمال الحيلة ، فأرسل إلى أبي قرة مقدم الصفرية يبذل له ستين ألف درهم ليرجع عنه ، فقال : بعد أن سلم علي بالخلافة أربعين سنة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا ؟ فلم يجبهم [ إلى ] ذلك .

فأرسل إلى أخي أبي قرة فدفع إليه أربعة آلاف درهم وثيابا على أن يعمل في صرف أخيه والصفرية ، فأجابهم وارتحل من ليلته وتبعه العسكر منصرفين إلى بلادهم ، فاضطر أبو قرة إلى اتباعهم .

فلما سارت الصفرية سير عمر جيشا إلى ابن رستم وهو في تهوذا ، ( قبيلة من البربر ) ، فقاتلوه ، فانهزم ابن رستم إلى تاهرت ، فضعف أمر الإباضية عن مقاومة عمر ، فساروا عن طبنة إلى القيروان ، فحصرها أبو حاتم ، وعمر بطبنة يصلح أمورها ويحفظها ممن يجاوره من الخوارج ، فلما علم ضيق الحال بالقيروان سار إليها . ولما سار عمر بن حفص إلى القيروان استخلف على طبنة عسكرا .

فلما سمع أبو قرة بمسير عمر بن حفص سار هو إلى طبنة فحصرها ، فخرج إليه من بها من العساكر وقاتلوه ، فانهزم منهم وقتل من عسكره خلق كثير .

وأما أبو حاتم فإنه لما حصر القيروان كثر جمعه ولازم حصارها وليس في بيت مالها دينار ولا في أهرائها شيء من الطعام ، فدام الحصار ثمانية أشهر ، وكان الجند يخرجون فيقاتلون الخوارج طرفي النهار حتى جهدهم الجوع وأكلوا دوابهم وكلابهم .

ولحق كثير من أهلها بالبربر ، ولم يبق غير دخول الخوارج إليها ، فأتاهم الخبر بوصول عمر بن حفص من طبنة ، فنزل الهريش ، وهو في سبعمائة فارس ، فزحف الخوارج إليه بأجمعهم وتركوا القيروان ، فلما فارقوها سار عمر إلى تونس ، فتبعه البربر ، فعاد إلى القيروان مجدا وأدخل إليها ما يحتاج من طعام ودواب وحطب وغير ذلك ، ووصل أبو حاتم والبربر إليه فحصروه ، فطال الحصار حتى أكلوا دوابهم ، وفي [ ص: 170 ] كل يوم يكون بينهم قتال وحرب .

فلما ضاق الأمر بعمر وبمن معه قال لهم : الرأي أن أخرج من الحصار ، وأغير على بلاد البربر ، وأحمل إليكم الميرة . قالوا : إنا نخاف بعدك ، قال : فأرسل فلانا وفلانا يفعلان ذلك ، فأجابوه ، فلما قال للرجلين قالا : لا نتركك في الحصار ونسير عنك .

فعزم على إلقاء نفسه إلى الموت ، فأتى الخبر أن المنصور قد سير إليه يزيد بن حاتم بن قتيبة بن المهلب في ستين ألف مقاتل ، وأشار عليه من عنده بالتوقف عن القتال إلى أن يصل العسكر ، فلم يفعل وخرج وقاتل ، فقتل منتصف ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة .

وقام بأمر الناس حميد بن صخر ، وهو أخو عمر لأمه ، فوادع أبا حاتم وصالحه على أن حميدا ومن معه لا يخلعون المنصور ولا ينازعهم أبو حاتم في سوادهم وسلاحهم ، وأجابهم إلى ذلك وفتحت له القيروان ، وخرج أكثر الجند إلى طبنة ، وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها .

وبلغه وصول يزيد بن حاتم ، فسار إلى طرابلس ، وأمر صاحبه بالقيروان بأخذ سلاح الجند ، وأن يفرق بينهم ، فخالف بعض أصحابه وقالوا : لا نغدر بهم ، وكان المقدم على المخالفين عمر بن عثمان الفهري ، وقام في القيروان وقتل أصحاب أبي حاتم ، فعاد أبو حاتم ، فهرب عمر بن عثمان من بين يديه إلى تونس ، وعاد أبو حاتم إلى طرابلس لقتال يزيد بن حاتم .

فقيل : كان بين الخوارج والجنود من لدن قاتلوا عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية