الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6277 [ ص: 267 ] 7 - باب: من حلف بملة سوى ملة الإسلام

                                                                                                                                                                                                                              وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" . ولم ينسبه إلى الكفر. [انظر: 4860].

                                                                                                                                                                                                                              6652 - حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ثابت بن الضحاك قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال. قال: ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله" [انظر: 1363 - مسلم: 110 - فتح: 11 \ 537]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال. قال: ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله " وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              ويشبه أن يريد بالأول ما في "مصنف ابن أبي شيبة ": حدثنا عبد الله ، ثنا إسرائيل ، عن أبي مصعب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه، قال: حلفت باللات والعزى، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني حلفت باللات والعزى، فقال: "قل: لا إله إلا الله ثلاثا، وانفث عن شمالك ثلاثا، وتعوذ بالله من الشيطان، ولا تعد" وقد أسلفناه في الباب قبله.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة عن عبد بن المنذر مرفوعا: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 268 ] وأخرجه ابن أبي عاصم بإسناد جيد.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : قوله "فهو كما قال" يعني هو كاذب في يمينه لا كافر; لأنه لا يخلو أن يعتقد الملة التي حلف بها، فلا كفارة له إلا الرجوع إلى الإسلام، أو يكون معتقدا للإسلام بعد الحنث فهو كاذب فيما قاله، بمنزلة من حلف يمين الغموس لا كفارة عليه; إلا من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله ولم ينسبه إلى الكفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : قوله: "فهو كما قال" يريد إذا كان معتقدا لها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وفسر ابن المبارك الكفر في هذه الأحاديث، المراد به: التغليظ، وليس الكفر، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] أنه ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك قال عطاء : كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، وكما قال - عليه السلام - "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" أي: كفر بما أمر به أن لا يقتل بعضهم بعضا.

                                                                                                                                                                                                                              قال غيره: والأمة مجمعة أن من حلف باللات والعزى، فلا كفارة عليه، فكذلك من حلف بما سوى الإسلام لا فرق بينهما.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى الحديث: النهي عن الحلف بما حلف من ذلك، والزجر [ ص: 269 ] عنه، فإن ظن ظان أن في هذا الحديث دليلا على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقا; لاشتراطه في هذا الحديث أن يحلف بذلك كاذبا. قيل: ليس كما توهمت; لورود نهي الشارع عن الحلف بغير الله نهيا مطلقا، فاستوى الكاذب والصادق في النهي، وقد تقدم معنى هذا الحديث في آخر الجنائز في باب: قاتل النفس، وسلف زيادة في بيانه في كتاب: الأدب في باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("من قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم") هو على الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("لعن المؤمن كقتله") ليسا في الفعل سواء، وإنما يريد أنهما حرام.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: يريد المبالغة في الإثم، فالشيء يسمى باسم الشيء للمقاربة كقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فيه تأويلان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال المهلب : هو معنى قول الطبري : اللعن في اللغة: هو الإبعاد، فمن لعن مؤمنا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام، فأفقدهم منافعه، وتكثير عددهم، فكأنه كمن أفقدهم منافعه بقتله. ويفسر هذا قوله للذي لعن ناقته: "انزل عنها فقد أجيبت دعوتك" فسرحها، ولم [ ص: 270 ] ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأفقد منافعها لما أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن فيهلك الملعون.

                                                                                                                                                                                                                              (والتأويل الثاني) أن الله تعالى حرم لعن المؤمن ، كما حرم قتله، فهما سواء في التحريم، وهذا يقتضي تحذير لعن المؤمن والزجر عنه; لأن الله تعالى قال: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات: 10] فأكد حرمة الإسلام وشبهها بحرمة النسب.

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك معنى قوله: "من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله" يعني في تحريم ذلك عليه.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل: هذا التأويل يعارض ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن جماعة من المؤمنين، فلعن المخنثين من الرجال، ولعن شارب الخمر، ولعن غيره، ولعن المصورين، ولعن من غير تخوم الأرض، ولعن من انتمى إلى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سب والديه، وجماعة سواهم.

                                                                                                                                                                                                                              قيل: لا تعارض في شيء من ذلك، والمؤمنون الذين حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنهم هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم يظهر الكبائر، ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر بموالاتهم، ومؤاخاتهم في الله، والتودد إليهم.

                                                                                                                                                                                                                              ولعن - عليه السلام - من خالف أمره، واستباح نهيه، وأمر بإظهار التكبر عليهم، وترك موالاتهم، والانبساط إليهم، والرضى عن أفعالهم. فالحديثان مختلفان، فلا تعارض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 271 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في الرجل يقول: أكفر بالله، وأشرك بالله، ثم يحنث ، فقال مالك : لا كفارة عليه، وليس بكافر، ولا مشرك، حتى يكون قلبه مضمرا على الشرك والكفر، وليستغفر الله تعالى، وينس ما صنع، وهو قول عطاء ، ومحمد بن علي، وقتادة، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور، وأبو عبيد . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي : من قال: هو يهودي، أو نصراني، أو قال: أشركت بالله، أو برئت من الله، أو من الإسلام فهو يمين، وعليه الكفارة إن حنث; لأنه تعظيم الله، فهو كاليمين بالله، وبه قال أحمد وإسحاق ، كما قدمنا ذلك في فصل مفرد.

                                                                                                                                                                                                                              وممن رأى الكفارة على من قال ذلك: ابن عمر وعائشة ، والحكم (على) من أسلفناه هناك.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وقول من لم يرها يمينا أصح، لقوله - عليه السلام -: "من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" ولم يأمر بكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القصار : ولقوله - عليه السلام -: "من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال" ومعناه: النهي عن مواقعة ذلك اللفظ، والتحذير منه، لا أنه يكون كافرا بالله بقوله ذلك. قال ابن القصار : وإنما أراد التغليظ في هذه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد، وكذلك قال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والمسور - رضي الله عنه - ثم تلاهم التابعون، فلم يوجبوا على من أقدم عليها كفارة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 272 ] قال: وأما قولهم: إذا قال: أنا يهودي فقد عظم الإسلام، وأراد الامتناع من الفعل، فالجواب أنهم يقولون: كما لو قال: وحق القرآن، وحق المصحف، ثم حنث، أنه لا كفارة عليه، وفي هذا من التعظيم لله وللإسلام ما ليس لما ذكروه، فسقط قولهم.

                                                                                                                                                                                                                              وأيضا فإنه إذا قال: هو يهودي، أو كفر بالله، فليس من طريق التعظيم، وإنما هو من الجرأة، والإقدام على المحرمات كالغموس، وسائر الكبائر، وهي أعظم من أن تكون فيها كفارة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ولم ينسبه إلى الكفر) هو بضم السين، وكذا هو في اللغة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري : نسبت الرجل: أنسبه بالضم، نسبة، ونسبا، إذا ذكرت نسبه، ونسب الشاعر بالمرأة، ينسب بالكسر إذا شبب بها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله") قيل: يعني في الحرمة، وقيل: يعني إذا نسب ذلك إليه وادعاه، وليس هو كذلك، وقد سلف مبسوطا.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية