الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              [ ص: 284 ] وأما إن قيل : لا بد من دليل شرعي يدل على حلها ، سواء كان عاما أو خاصا ، فعنه جوابان :

              أحدهما : المنع كما تقدم . والثاني : أن نقول : قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة ، إلا ما استثناه الشارع . وما عارضوا به سنتكلم عنه إن شاء الله ، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود .

              وأما قوله صلى الله عليه وسلم : أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ، فالشرط يراد به المصدر تارة ، والمفعول أخرى . وكذلك الوعد والخلف . ومنه قولهم : درهم ضرب الأمير ، والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط ، لا نفس التكلم . ولهذا قال : وإن كان مائة شرط ، أي : وإن كان قد شرط مائة شرط ، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط ، وإنما المراد تعديد المشروط . والدليل على ذلك قوله : كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق ، أي : كتاب الله أحق من هذا الشرط ، وشرط الله أوثق منه ، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه ، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى .

              وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله ، فلم يخالف كتاب الله وشرطه ، حتى يقال : " كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق " فيكون المعنى : من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه ، بواسطة وبغير واسطة فهو باطل ؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط ، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط - وهو [ ص: 285 ] ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطا ليس في كتاب الله . فانظر إلى المشروط إن كان [ فعلا ] أو حكما . فإن كان الله قد أباحه : جاز اشتراطه ووجب ، وإن كان الله لم يبحه : لم يجز اشتراطه . فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته ، فهذا المشروط في كتاب الله ؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها . فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله .

              فمضمون الحديث : أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة ، أو يقال : ليس في كتاب الله ، أي : [ في ] كتاب الله نفيه ، كما قال : " سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم " أي : بما تعرفون خلافه ، وإلا فما لا يعرف كثير .

              ثم نقول : إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة ، بمعنى : أنه لا يلزم بها شيء ، لا إيجاب ولا تحريم ، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة ، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام ، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه ، وسماه ( منكرا من القول وزورا ) ، ثم إنه أوجب به ، على من عاد : الكفارة ، ومن لم يعد : جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد . وكذا النذر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر وقال : " إنه لا يأتي بخير " ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم : " من نذر [ ص: 286 ] أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " .

              فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم . نعم لا يكون سببا لإباحة ، كما أنه لما نهي عن بيوع الغرر ، وعن عقد الربا ، وعن نكاح ذوات المحارم ، ونحو ذلك ، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عنه الاستباحة ؛ لأن المنهي عنه معصية . والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته ، والإباحة من نعمة الله ورحمته ، وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ، ولفتح أبواب الدنيا ، لكن ذلك قدر ليس بشرع . بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب ، والتحريم قد يكون عقوبة كما قال الله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] ، وإن كان قد يكون رحمة أيضا ، كما جاءت شريعتنا الحنيفية .

              والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص : فهو عقد حرام ، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه ، وكلا المقدمتين ممنوعة ، كما تقدم .

              وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التي لم يبحها [ الله ] ، وإن كان لم يحرمها باطلة . فنقول :

              قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما ، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها . وعلى هذا التقدير ، فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون [ ص: 287 ] مباحة ، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة ، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة ، وذلك لأن قوله : " ليس في كتاب الله " ، إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه ، وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله ؛ لأن قولنا : هذا في كتاب الله ، يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم . وعلى هذا معنى قوله تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ، وقوله : ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) [ يوسف : 111 ] ، وقوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) [ الأنعام : 38 ] على قول من جعل الكتاب هو القرآن ، وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ : فلا يجيء هاهنا .

              يدل على ذلك : أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق ، فيجب أن يكون في كتاب الله . وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه ، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين ، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار ؛ لأن جامع الجامع جامع ، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار .

              يبقى أن يقال على هذا الجواب : فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما ، فشرط الولاء داخل في العموم .

              [ فيقال ] : العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص ، فإن الخاص يفسر العام . وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته . وقوله : من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى : [ ص: 288 ] ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) [ الأحزاب : 4 - 5 ] ، فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده ، دون من تبناه . وحرم التبني ، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : أنت أخونا ومولانا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليكسه مما يلبس .

              فجعل سبحانه الولاء نظير النسب ، وبين سبب الولاء في قوله : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ) ، فبين أن سبب الولاء : هو الإنعام بالإعتاق ، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد . فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد ، فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق لأنه في معناه ، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره .

              وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : إنما الولاء لمن أعتق .

              وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه ، لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه ، مع أن الذي يغلب على القلب [ ص: 289 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى الأول ، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله . والتقدير : من اشترط شيئا لم يبحه الله فيكون المشروط قد حرمه ؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه ، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله ، بدليل قوله : كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق . فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها [ أصلين ] : الأدلة الشرعية العامة ، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب ، وانتفاء المحرم ، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة : هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا ؟ .

              أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي : فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك . فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله ، وحرمه الله ورسوله ، [ مغير ] لهذا الاستصحاب ، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك . وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة : فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به ، إلا بعد البحث عن تلك المسألة : هل هي من المستخرج أو من المستبقى ؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه ، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه ، أو علم تخصيص صور معينة فيه : هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن [ ص: 290 ] المخصص المعارض له ؟ فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما . وذكروا عن أحمد فيه روايتين ، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة ، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم . وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره ، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه ، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه . وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض ، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل ، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة - كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم - أو جعل المعارض [ المانع ] للدليل ، فيكون الدليل هو الظاهر ، لكن القرينة مانعة لدلالته ، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم ، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي ، أو إطلاق لفظي ، أو اصطلاح جدلي ، لا [ يرجع ] إلى أمر علمي أو فقهي .

              فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها : مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط ، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع ، فهي بأصول الفقه - التي هي الأدلة العامة - أشبه منها بقواعد الفقه ، التي هي الأحكام العامة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية