الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإنه نزله ) : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه ، فلو قلت : من يكرمني ؟ فزيد قائم ، لم يجز . وقوله : ( فإنه نزله على قلبك ) ، ليس فيه ضمير يعود على من . وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري ، وهو خطأ ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير ، ولمضي فعل التنزيل ، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء ، وإنما الجزاء [ ص: 320 ] محذوف لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : فعداوته لا وجه لها ، أو ما أشبه هذا التقدير . والضمير في فإنه عائد على جبريل ، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه . ألا ترى إلى قوله : ( مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ) ؟ وهذه كلها من صفات القرآن . ولقوله : ( بإذن الله ) ، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله . وقيل : الضمير في فإنه عائد على الله ، وفي نزله عائد على جبريل ، التقدير : فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك . وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى . لكن التقدير الأول أولى ، لما ذكرناه ، وليكون موافقا لقوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) ، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ : نزل بالتشديد ، والروح بالنصب . ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوا لجبريل ، فعداوته لا وجه لها ؛ لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن . ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك . والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه .

( على قلبك ) : أتى بلفظ على ؛ لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه . وكانت أبلغ من إلى ؛ لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء . وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه . وخص القلب - ولم يأت عليك - لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد . وفي الحديث : " إن في الجسد مضغة " . ثم قال أخيرا : " ألا وهي القلب " . أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقا للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ، ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) ، أو يكون إطلاقا لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة . وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرا ؛ لأن قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد : قال الله : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) . وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : ما تكلمت به من قولي : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) ، وكلامه فيه تثبيج . وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق :


ألم تر أني يوم جو سويقة دعوت فنادتني هنيدة ماليا



فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك . انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول مضمر ، وهو ظاهر الكلام .

( بإذن الله ) : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : ( لا تكلم نفس إلا بإذنه ) ، ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) . وقد صرح بذلك في : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) ، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية ; أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله الزمخشري .

( مصدقا لما بين يديه ) : انتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون [ ص: 321 ] حالا من المجرور المحذوف لفهم المعنى ؛ لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقا . والثاني : أن يكون حالا من جبريل . وما في " لما " موصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل . والهاء في " بين يديه " يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل . فالمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل والكتب .

( وهدى وبشرى ) : معطوفان على مصدقا ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهاديا ومبشرا ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى . والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر . وقد تقدم الكلام على المعنى في قوله : ( وبشر الذين آمنوا ) في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى . فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبا وجوديا . فالأول : كونه مصدقا للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد . والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق . والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية . وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة .

( للمؤمنين ) : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ؛ لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : ( وهو عليهم عمى ) ، ولأن المؤمنين هم المبشرون ، ( فبشر عباد ) ، ( يبشرهم ربهم برحمة منه ) . ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة . ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام ، والحروف عبارة الرسول . ورد عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحيا وكتابا وعربيا ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل .

( من كان عدوا لله ) : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها : مخالفة الأمر ، وعداوة الله للعبد ، مجازاته على مخالفته .

( وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . أكد بقوله : وملائكته ، أمر جبريل ، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة ، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب ، فرد عليهم في الآية السابقة ، بأنه أتى بأصل الخيور كلها ، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة ، من موافقته لكتبهم ، وكونه هدى وبشرى ، فكانت تجب محبته . ورد عليهم في هذه الآية ، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجا تحت عموم ملائكته ، ثم ثانيا تحت عموم رسله ؛ لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم ، ثم ثالثا بالتنصيص على ذكره مجردا مع من يدعون أنهم يحبونه ، وهو ميكال ، فصار مذكورا في هذه الآية ثلاث مرات ، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم ، وتنويه بجبريل . ودلت الآية على أن الله تعالى عدو لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال . ولا يدل ذلك على أن المراد من جمع عداوة الجميع فالله تعالى عدوه ، وإنما المعنى أن من عادى واحدا ممن ذكر ، فالله عدوه ، إذ معاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع . وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولا أو ملكا فقد كفر . فقال بعض الناس : الواو هنا بمعنى أو ، وليست للجمع . وقال بعضهم : الواو للتفصيل ، ولا يراد أيضا أن يكون عدوا لجميع الملائكة ، ولا لجميع الرسل ، بل هذا من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع ، كقولك : إن كلمت الرجال فأنت طالق ، لا يريد بذلك إن كلمت كل الرجال ، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع ، وإنما علق بالجنس ، وإن كان بصورة الجمع ، فلو كلمت رجلا واحدا طلقت ، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل . فالمعنى أن من عادى الله ، أو ملكا من ملائكته ، أو رسولا من رسله ، فالله [ ص: 322 ] عدو له .

وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله ، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده ، كقوله تعالى : ( فأن لله خمسه ) ، وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا . وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير - قدس الله روحه - أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد ، وهو أن يكون الشيء مندرجا تحت عموم ، ثم تفرده بالذكر ، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام . فجبريل وميكال جعلا كأنهما من جنس آخر ، ونزل التغاير في الوصف كالتغاير في الجنس ، فعطف . وهذا النوع من العطف - أعني عطف الخاص على العام - على سبيل التفضيل ، هو من الأحكام التي انفردت بها الواو ، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف . وقيل : خصا بالذكر ؛ لأن اليهود ذكروهما ، ونزلت الآية بسببهما . فلو لم يذكرا ، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا : لم نعاد الله ؟ ولا جميع ملائكته ؟ وقيل : خصا بالذكر دفعا لإشكال : أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة ، لا واحد منهم . فكأنه قيل : أو واحد منهم . وجاء هذا الترتيب في غاية الحسن ، فابتدئ بذكر الله ، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل ، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم . فهذا ترتيب بحسب الوحي . ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم ؛ لأن الترتيب الذي ذكرناه هو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط ، لا بالنسبة إلى التفضيل . ويأتي قول الزمخشري : بأن الملائكة أشرف من الأنبياء - إن شاء الله - قالوا : واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة . وقالوا : جبريل أفضل من ميكال ؛ لأنه قدم في الذكر ، ولأنه ينزل بالوحي والعلم ، وهو مادة الأرواح . وميكال ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة الأبدان ، وغذاء الأرواح أشرف من غذاء الأشباح ، انتهى . ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح ، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل ، إذ يحتمل أن يكون ذلك من باب الترقي . ومن : في قوله : ( من كان عدوا ) شرطية . واختلف في الجواب فقيل : هو محذوف ، تقديره : فهو كافر ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وقيل الجواب : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وأتى باسم الله ظاهرا ، ولم يأت بأنه عدو لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى ، أو عائد على أقرب مذكور ، وهو ميكال ، فأظهر الاسم لزوال اللبس ، أو للتعظيم والتفخيم ؛ لأن العرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له ومنه : ( لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ) ، وقول الشاعر :


لا أرى الموت يسبق الموت شيء



وهذه الجملة الواقعة خبرا للشرط ، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط . والرابط هنا الاسم الظاهر وهو : الكافرين ، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي ، ولينص على علة العداوة ، وهي الكفر ، إذ من عادى من تقدم ذكره ، أو واحدا منهم ، فهو كافر . أو يراد بالكافرين العموم ، فيكون الرابط العموم ، إذ الكفر يكون بأنواع ، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم ، فيحصل الربط بذلك . وقال الزمخشري : عدو للكافرين ، أراد عدوا لهم ، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا ، فما بال الملائكة ؟ وهم أشرف . والمعنى : من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب . انتهى كلامه . وهذا مذهب المعتزلة يذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم . ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير ، وأنه لم يلحظ فيه العموم ، وقال ابن عطية : وجاءت العبارة بعموم الكافرين ؛ لأن عود الضمير على " من " يشكل ، سواء أفردته أو جمعته ، ولو لم يبال بالإشكال . وقلنا : المعنى يدل السامع على المقصد ، للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم . ويحتمل أن الله قد علم أن بعضهم يؤمن ، فلا ينبغي أن يطلق عليه [ ص: 323 ] عداوة الله للمآل . وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله : ذلك عدونا - يعني جبريل - فنزلت على لسان عمر . قال ابن عطية : وهذا الخبر ضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية