الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والرسول يطاع ويحب فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه . قال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } .

                [ ص: 467 ] وهذا حقيقة دين الإسلام . والرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } .

                فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به فلا بد أن يكون مريدا محبا لما أمره الله بإرادته ومحبته كارها مبغضا لما أمره الله بكراهته وبغضه . والناس في هذا الباب " أربعة أنواع " : أكملهم الذين يحبون ما أحبه الله ورسوله ، ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله فيريدون ما أمرهم الله ورسوله بإرادته ويكرهون ما أمرهم الله ورسوله بكراهته وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك . فيأمرون بما أمر الله به ورسوله ولا يأمرون بغير ذلك ، وينهون عما نهى الله عنه ورسوله ولا ينهون عن غير ذلك وهذه حال الخليلين أفضل البرية : محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم وقد [ ص: 468 ] ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا } " وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت } " . وذكر : أن ربه خيره بين أن يكون نبيا ملكا ; وبين أن يكون عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا . فإن " النبي الملك " مثل داود وسليمان قال تعالى : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } قالوا : معناه أعط من شئت وامنع من شئت لا نحاسبك " فالنبي الملك " يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك كالذي يفعل المباحات بإرادته .

                وأما " العبد الرسول " فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك وقد يكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين : وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع ، لا إرادة دينية هو مأمور بها ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيا عنها أو غير منهي عنها بل ما وقع كان مرادا له ومهما فعل به كان مرادا له من غير أن يفعل المأمور به شرعا في ذلك . [ ص: 469 ] فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة ; بل يعطي كل أحد . فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفي عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله . فإنه لا يذم على ما فعل ولا يمدح مطلقا . بل يمدح لعدم هواه ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل . بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب . وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه ; وإن كان ذلك مباحا له وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه ولا بالقدر المحض .

                فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على " ثلاثة أقسام " : ( قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي ) . وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم . وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك . و ( قوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة ) . وهذا حال النبي الملك . وهو حال الأبرار أهل اليمين . و ( قوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا ) .

                أما " الأول " فلعدم [ ص: 470 ] علمهم به . وأما " الثاني " فلزهدهم فيه ; بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض اتباعا لإرادة الله الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب .

                وكلام " الشيخ عبد القادر " - قدس الله روحه - كثيرا ما يقع في هذا المقام ; فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقا ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق لكن هذا قد يخفى عليه ; فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع ألا ترى { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم ، وبسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم . قال : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة } " . وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق ، والمن والفداء ليس تخيير شهوة بل تخيير رأي ومصلحة فعليه أن يختار الأصلح ، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم الله وإلا فلا .

                ولما كان هذا يخفى كثيرا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث [ ص: 471 ] الصحيح : " { إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك ، وحكم أصحابك } " والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده فلما أمر سعدا بما هو الأرضى لله والأحب إليه حكم بحكمه ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده وإن لم يكن ذلك هو حكم الله في الباطن . ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة يأمر الشيخ عبد القادر وأمثاله من الشيوخ : " تارة " بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك و " تارة " بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع كما يرجح الشارع بالقرعة . فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه فإن هذا إما محرم وإما مكروه وإما منقص ، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات . ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به وإلا رجحوا : إما " بسبب باطن " من الإلهام والذوق وإما " بالقضاء والقدر " الذي لا يضاف إليهم .

                ومن يرجح في مثل هذه الحال " باستخارة الله " كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن فقد أصاب . [ ص: 472 ] وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة " المسألة الشرعية " عند الناظر المجتهد وعند المقلد المستفتي فإنه لا يرجح شيئا . بل ما جرى به القدر أقروه ولم ينكروه . وتارة يرجح أحدهم : إما بمنام وإما برأي مشير ناصح وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين .

                وأما الترجيح بمجرد الاختيار بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره . فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي : إنه يخير بين المفتين المختلفين . وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد . فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا . ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه . لكن قد يقال : القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي . وعلى هذا التقدير ليس من هذا فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله وبغض ما يكرهه الله إذا لم يدر في الأمر المعين [ ص: 473 ] هل هو محبوب لله أو مكروه ورأى قلبه يحبه أو يكرهه كان هذا ترجيحا عنده .

                كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي . ففي " الجملة " متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الإلهام طريقا على الإطلاق أخطئوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقا شرعيا على الإطلاق . ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه ; قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة ; والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه .

                وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله تعالى { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } } وقال عمر بن الخطاب : اقتربوا من أفواه المطيعين ; واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور [ ص: 474 ] صادقة . وقد ثبت في الصحيح قول الله تعالى : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي } و ( أيضا فالله - سبحانه وتعالى - فطر عباده على الحنيفية : وهو حب المعروف وبغض المنكر فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان منورة بنور القرآن وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله وذلك أن الله علم القرآن والإيمان . قال الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } الآية . ثم قال : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقال جندب بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا .

                وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن ، وعلموا من السنة } " وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 475 ] أنه قال : " { ضرب الله مثلا صراطا مستقيما . وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوق الصراط . فالصراط المستقيم هو الإسلام ، والستور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي - أو كما قال - يا عبد الله لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه . والداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن } " . فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب ; فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه ولهذا يقوى أحدهما بالآخر .

                كما قال تعالى : { نور على نور } قال بعض السلف في الآية : هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا سمع بالأثر كان نورا على نور . نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل ; فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . وقد يؤتى العبد أحدهما ولا يؤتى الآخر . كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب . ومثل [ ص: 476 ] المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ; ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية