الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 153 ] فصل وفي القصة من الفقه تخيير الأمة المزوجة إذا أعتقت وزوجها عبد ، وقد اختلفت الرواية في زوج بريرة ، هل كان عبدا أو حرا ؟ .

فقال القاسم عن عائشة رضي الله عنها : ( كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها ) وقال عروة عنها : كان حرا . وقال ابن عباس : ( كان عبدا أسود يقال له مغيث ، عبدا لبني فلان ، كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة ) وكل هذا في الصحيح .

وفي " سنن أبي داود " عن عروة عن عائشة كان عبدا لآل أبي أحمد فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : ( إن قربك فلا خيار لك ) .

وفي " مسند أحمد " عن عائشة رضي الله عنها : أن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد وإن شئت أن تفارقيه ) .

وقد روي في " الصحيح " : أنه كان حرا .

وأصح الروايات وأكثرها : أنه كان عبدا وهذا الخبر رواه عن عائشة رضي الله عنها ثلاثة الأسود وعروة والقاسم ، أما الأسود فلم يختلف عنه عن عائشة أنه كان حرا ، وأما عروة فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان : إحداهما : أنه كان حرا ، والثانية : أنه كان عبدا ، وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه روايتان صحيحتان : إحداهما : أنه كان حرا ، والثانية : الشك . قال داود بن مقاتل ولم تختلف الرواية عن ابن عباس أنه كان عبدا .

واتفق الفقهاء على تخيير الأمة إذا أعتقت وزوجها عبد ، واختلفوا إذا كان حرا فقال الشافعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه : لا تخيير . وقال أبو [ ص: 154 ] حنيفة وأحمد في الرواية الثانية تخير . وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبدا أو حرا ، بل على تحقيق المناط في إثبات الخيار لها ، وفيه ثلاثة مآخذ للفقهاء :

أحدها : زوال الكفاءة وهو المعبر عنه بقولهم كملت تحت ناقص .

الثاني : أن عتقها أوجب للزوج ملك طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد ، وهذا مأخذ أصحاب أبي حنيفة ، وبنوا على أصلهم أن الطلاق معتبر بالنساء لا بالرجال .

الثالث : ملكها نفسها ، ونحن نبين ما في هذه .

المأخذ الأول : وهو كمالها تحت ناقص ، فهذا يرجع إلى أن الكفاءة معتبرة في الدوام كما هي معتبرة في الابتداء ، فإذا زالت خيرت المرأة ، كما تخير إذا بان الزوج غير كفء لها . وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما : أن شروط النكاح لا يعتبر دوامها واستمرارها ، وكذلك توابعه المقارنة لعقده لا يشترط أن تكون توابع في الدوام ، فإن رضى الزوجة غير المجبرة شرط في الابتداء دون الدوام ، وكذلك الولي والشاهدان ، وكذلك مانع الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاح الزانية ، إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته ، فلا يلزم من اشتراط الكفاءة ابتداء اشتراط استمرارها ودوامها .

الثاني : أنه لو زالت الكفاءة في أثناء النكاح بفسق الزوج ، أو حدوث عيب موجب للفسخ ، لم يثبت الخيار على ظاهر المذهب ، وهو اختيار قدماء الأصحاب ومذهب مالك .

وأثبت القاضي الخيار بالعيب الحادث ويلزمه إثباته بحدوث فسق الزوج ، وقال الشافعي : إن حدث بالزوج ثبت الخيار ، وإن حدث بالزوجة فعلى قولين .

وأما المأخذ الثاني : وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها ملك طلقة ثالثة فمأخذ ضعيف جدا ، فأي مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة ، وبين ثبوت الخيار لها ؟ وهل نصب الشارع ملك الطلقة الثالثة سببا لملك الفسخ ، وما يتوهم - من أنها كانت تبين منه باثنتين فصارت لا تبين إلا بثلاث ، وهو زيادة إمساك وحبس لم [ ص: 155 ] يقتضه العقد - فاسد ، فإنه يملك ألا يفارقها البتة ، ويمسكها حتى يفرق الموت بينهما ، والنكاح عقد على مدة العمر ، فهو يملك استدامة إمساكها ، وعتقها لا يسلبه هذا الملك فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقة ثالثة ، وهذا لو كان الطلاق معتبرا بالنساء ، فكيف والصحيح أنه معتبر بمن هو بيده وإليه ومشروع في جانبه .

وأما المأخذ الثالث : وهو ملكها نفسها فهو أرجح المآخذ وأقربها إلى أصول الشرع ، وأبعدها من التناقض ، وسر هذا المأخذ أن السيد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكا لرقبتها ومنافعها ، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق ، وهذا مقصود العتق وحكمته فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها ومن جملتها منافع البضع ، فلا يملك عليها إلا باختيارها ، فخيرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها ، وبين أن تفسخ نكاحه ، إذ قد ملكت منافع بضعها ، وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ( ملكت نفسك فاختاري ) .

فإن قيل : هذا ينتقض بما لو زوجها ثم باعها ، فإن المشتري قد ملك رقبتها وبضعها ومنافعه ، ولا تسلطونه على فسخ النكاح . قلنا : لا يرد هذا نقضا ، فإن البائع نقل إلى المشتري ما كان مملوكا له فصار المشتري خليفته ، وهو لما زوجها ، أخرج منفعة البضع عن ملكه إلى الزوج ، ثم نقلها إلى المشتري مسلوبة منفعة البضع ، فصار كما لو آجر عبده مدة ثم باعه .

فإن قيل : فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها ، فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها وأنها ملكت نفسها مسلوبة منفعة البضع ، كما لو آجرها ثم أعتقها ، ولهذا ينتقض عليكم هذا المأخذ ؟ .

قيل الفرق بينهما : أن العتق في تمليك العتيق رقبته ومنافعه أقوى من البيع ، ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسري في حصة الشريك ، بخلاف البيع ، فالعتق إسقاط ما كان السيد يملكه من عتيقه ، وجعله له محررا ، وذلك يقتضي إسقاط ملك نفسه ومنافعها كلها .

وإذا كان العتق يسري في ملك الغير المحض الذي لا [ ص: 156 ] حق له فيه البتة فكيف لا يسري إلى ملكه الذي تعلق به حق الزوج ، فإذا سرى إلى نصيب الشريك الذي حق للمعتق فيه ، فسريانه إلى ملك الذي يتعلق به حق الزوج أولى وأحرى ، فهذا محض العدل والقياس الصحيح .

فإن قيل : فهذا فيه إبطال حق الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك فإنه يرجع إلى القيمة .

قيل الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء ، فطريان ما يزيل دوامها لا يسقط له حقا ، كما لو طرأ ما يفسده أو يفسخه برضاع أو حدوث عيب أو زوال كفاءة عند من يفسخ به .

فإن قيل فما تقولون فيما رواه النسائي ، من حديث ابن موهب عن القاسم بن محمد ، قال : كان لعائشة رضي الله عنها غلام وجارية قالت : فأردت أن أعتقهما ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( ابدئي بالغلام قبل الجارية ) ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج حرا لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة ، فإذا بدأت به عتقت تحت حر فلا يكون لها اختيار .

وفي " سنن النسائي " أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما أمة كانت تحت عبد فعتقت فهي بالخيار ما لم يطأها زوجها ) .

قيل : أما الحديث الأول فقال أبو جعفر العقيلي وقد رواه : هذا خبر لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب وهو ضعيف .

وقال ابن حزم : هو [ ص: 157 ] خبر لا يصح . ثم لما صح لم يكن فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين ، بل قال : كان لها عبد وجارية . ثم لو كانا زوجين لم يكن في أمرها لها بعتق العبد أولا ما يسقط خيار المعتقة تحت الحر ، وليس في الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى ، بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدئ بالذكر لفضل عتقه على الأنثى ، وأن عتق أنثيين يقوم مقام عتق ذكر ، كما في الحديث الصحيح مبينا .

وأما الحديث الثاني : فضعف لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمري وهو مجهول . فإذا تقرر هذا وظهر حكم الشرع في إثبات الخيار لها ، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها ولا تستطيع فراقه ) ويستفاد من هذا قضيتان :

إحداهما : أن خيارها على التراخي ما لم تمكنه من وطئها وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد . وللشافعي ثلاثة أقوال : هذا أحدها . والثاني : أنه على الفور والثالث : أنه إلى ثلاثة أيام .

الثانية : أنها إذا مكنته من نفسها فوطئها سقط خيارها وهذا إذا علمت بالعتق وثبوت الخيار به ، فلو جهلتهما لم يسقط خيارها بالتمكين من الوطء .

وعن أحمد رواية ثانية : أنها لا تعذر بجهلها بملك الفسخ ، بل إذا علمت بالعتق ومكنته من وطئها سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ ، والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار - وقلنا : إنه لا خيار للمعتقة تحت حر - بطل خيارها لمساواة الزوج لها ، وحصول الكفاءة قبل الفسخ .

قال الشافعي في أحد قوليه - وليس هو المنصور عند أصحابه - : لها الفسخ لتقدم ملك الخيار على العتق ، فلا يبطله ، والأول أقيس لزوال سبب الفسخ بالعتق ، وكما لو زال العيب [ ص: 158 ] في البيع والنكاح قبل الفسخ به ، وكما لو زال الإعسار في زمن ملك الزوجة الفسخ به . وإذا قلنا : العلة ملكها نفسها فلا أثر لذلك ، فإن طلقها طلاقا رجعيا فعتقت في عدتها فاختارت الفسخ بطلت الرجعة ، وإن اختارت المقام معه صح وسقط اختيارها للفسخ ؛ لأن الرجعية كالزوجة .

وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد : لا يسقط خيارها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة ، ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع ، ولا يصح اختيارها في زمن الطلاق ، فإن الاختيار في زمن هي فيه صائرة إلى بينونة ممتنع .

فإذا راجعها صح حينئذ أن تختاره وتقيم معه ؛ لأنها صارت زوجة وعمل الاختيار عمله ، وترتب أثره عليه .

ونظير هذا إذا ارتد زوج الأمة بعد الدخول ، ثم عتقت في زمن الردة ، فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه ، فإن اختارته ثم أسلم سقط ملكها للفسخ ، وعلى قول الشافعي : لا يصح لها خيار قبل إسلامه ؛ لأن العقد صائر إلى البطلان . فإذا أسلم صح خيارها .

فإن قيل : فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ هل يقع الطلاق أم لا ؟ .

قيل : نعم يقع لأنها زوجة ، وقال بعض أصحاب أحمد وغيرهم : يوقف الطلاق ، فإن فسخت تبينا أنه لم يقع ، وإن اختارت زوجها تبينا وقوعه . فإن قيل فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ ؟ .

قيل : إما أن تفسخ قبل الدخول ، أو بعده . فإن فسخت بعده لم يسقط المهر وهو لسيدها سواء فسخت أو أقامت ، وإن فسخت قبله ففيه قولان هما روايتان عن أحمد : إحداهما : لا مهر لأن الفرقة من جهتها ، والثانية : يجب نصفه ويكون لسيدها لا لها .

فإن قيل فما تقولون في المعتق نصفها هل لها خيار ؟ قيل فيها قولان وهما روايتان عن أحمد فإن قلنا : لا خيار لها كزوج مدبرة له لا يملك غيرها وقيمتها مائة ، فعقد على مائتين مهرا ، ثم مات عتقت ولم تملك الفسخ قبل [ ص: 159 ] الدخول لأنها لو ملكت ، سقط المهر أو انتصف ، فلم تخرج من الثلث فيرق بعضها ، فيمتنع الفسخ قبل الدخول بخلاف ما إذا لم تملكه ، فإنها تخرج من الثلث فيعتق جميعها .

التالي السابق


الخدمات العلمية