الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : البكاء على الميت

                                                                                                                                            فأما البكاء بلا ندب ولا نياحة فمباح ، لما فيه من تخفيف الحزن وتعجيل السلو ، وقد روى ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع إبراهيم عليه السلام في حجره وهو يجود بنفسه فقال : " لولا أنه موعد صادق ، ووعد جامع ، وأن الماضي فرط للباقي ، وأن الآخر لاحق بالأول ، لحزنا عليك يا إبراهيم " ثم دمعت عيناه ، فقال : " تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضاه الرب ، وإنا بك يا إبراهيم محزونون ، الحق بالسلف الصالح عثمان بن مظعون " .

                                                                                                                                            وروى أبو أمامة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم عليه السلام ، وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله تبكي على هذا السخل ، والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولدا كلهم أشف منه ، كلهم أدفنهم في التراب أحياء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما ذنبي إن كانت الرحمة ذهبت منك " ، وروى ابن عباس قال : " لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه عثمان بن مظعون بالحصبة " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون . قال : وبكى النساء " فجعل عمر بن الخطاب يضربهن بسوطه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، وقال : " دعهن يا عمر ، قال : إياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة ، ومهما يكن من اللسان واليد فمن الشيطان " قال : وبكت فاطمة رضي الله عنها على شفير القبر ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع عن عينها بطرف ثوبه، وقيل إنه صلى الله عليه وسلم زوج عثمان ابنته أم كلثوم على شفير قبر رقية .

                                                                                                                                            [ ص: 69 ] فأما رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " فقد ذكر ذلك ابن عباس لعائشة رضي الله عنها بعد موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " حسبكم القرآن " ولا تزر وازرة وزر أخرى ، [ فاطر 18 ] ، وكلا الحديثين يفتقر إلى تأويل ، وليس يمكن حمل واحد منهما على ظاهره ، فلأصحابنا ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : ما روته عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتاز على قبر يهودي ، وأهله يبكون عليه ، فقال : إنه ليبكى عليه ، وإنه ليعذب في قبره فقال ذلك إخبارا عن حاله .

                                                                                                                                            والتأويل الثاني : أنه أراد بذلك ما يبكى به الجاهلي من حروبه وقتله وغاراته ، فيظنون أن ذكر ذلك رحمة له فيكون عذابا عليه .

                                                                                                                                            والتأويل الثالث : ذكره المزني : أنه وارد فيمن وصى بالبكاء ، فقد كانوا يفعلون ذلك وقال شاعر منهم :

                                                                                                                                            .

                                                                                                                                            فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد



                                                                                                                                            فإذا عمل بذلك بعده كان زائدا في عذابه لقوله صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية