الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1776 [ ص: 428 ] حديث ثان لأبي طوالة

مالك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ، عن أبي الحباب سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون لجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي .

التالي السابق


قال أبو عمر : أبو الحباب سعيد بن يسار هذا مدني تابعي ثقة لا يختلفون فيه ، وهو مولى الحسن بن علي ، وقيل : بل هو مولى شميسة امرأة كانت نصرانية فأسلمت على يدي الحسن بن علي ، وتوفي أبو الحباب سنة سبع عشرة ومائة .

وهذا الحديث في الموطأ بهذا الإسناد عند جماعة رواته فيما علمت ، وقد كان عند مالك فيه إسناد آخر رواه إبراهيم بن طهمان ، عن مالك ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ذكره أبو داود ، وقال : كان عنده أيضا عن مالك حديث أبي طوالة ، عن أبي الحباب .

[ ص: 429 ] قال أبو عمر : معنى هذا الحديث واضح في فضل المتحابين في الله ، ومعنى قوله فيه - والله أعلم - أين المتحابون لجلالي : أين المتحابون إجلالا لي ، ومحبة في ؟ فمن إجلال الله عز وجل إجلال أولياء الله ، ومحبتهم كما جاء في الأثر : من إجلال الله عز وجل : إجلال ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ، ولا الجافي عنه وإذا كان ذكرهم وذكر فضائلهم عمل بر ، فما ظنك بحبهم ، وإخلاص الود لهم ؟

قرأت على أبي عثمان سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سمعت ابن أبي إسرائيل ، يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة ، قال : وسمعت ابن أبي إسرائيل ، يقول : سمعت سفيان ، يقول : اسلكوا سبيل الحق ، ولا تستوحشوا من قلة أهله .

وذكر أبو عبيد ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عوف بن أبي جميلة ، عن زياد بن مخراق ، عن أبي كنانة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه لا الجافي عنه ، وذي السلطان المقسط . وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة : الإمام المقسط ، [ ص: 430 ] وذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ، ولا الجافي عنه - من وجوه فيها لين . وحملة القرآن هم العاملون بأحكامه وحلاله وحرامه ، والعاملون بما فيه ، ومن أوثق عرى الإسلام البغض في الله ، والحب في الله .

حدثنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الله بن مسروق ، حدثنا عيسى بن مسكين ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، حدثنا عارم ، حدثنا الصعق بن حزن ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق ، عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله بن مسعود ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : تدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الولاية في الله الحب ، والبغض فيه .

وذكر يعقوب بن شيبة ، قال : حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن مسلم بن يسار ، قال : ما من عملي شيء إلا وأنا أخاف أن يكون قد دخله ما يفسده إلا الحب في الله .

قال : وحدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، قال : مرضت مرضة ، فلم يكن [ ص: 431 ] في عملي شيء أوثق في نفسي من قوم كنت أحبهم في الله .

وذكر ابن المبارك ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم قال : نزلت في المتحابين في الله .

وحدثنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الله بن مسرور ، حدثني عيسى بن مسكين ، حدثنا ابن سنجر ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا إسماعيل بن زكرياء ، حدثنا ليث ، عن عمرو بن مرة ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله .

قال أبو عمر : فمن الحب في الله حب أولياء الله ، وهم الأنقياء العلماء الفضلاء ، ومن البغض في الله بغض من حاد الله وجاهر بمعاصيه ، أو ألحد في صفاته وكفر به وكذب رسله ، أو نحو هذا كله .

وأما قوله : " في ظل الله " فإنه أراد - والله أعلم - في ظل عرشه ، وقد يكون الظل كناية عن [ ص: 432 ] الرحمة كما قال : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه يعني بذلك ما هم فيه من الرحمة ، والنعيم ، وقال : أكلها دائم وظلها وقد يكون كناية عن العذاب كما قال عز وجل : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ومن كان في ظل الله يوم الحساب وقي شر ذلك اليوم ، جعلنا الله برحمته من المتحابين فيه ولوجهه ، المستقرين تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، فإن ذلك من أفضل الأعمال وأكرم الخلال .

أخبرنا خلف بن القاسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن صالح السبيعي الحلبي بدمشق ، حدثنا أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سليمان الشعري ، حدثنا محمد بن محمد بن أبي الورد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، حدثنا حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد : أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك ، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : وما ذاك علي ؟ قال : هل واليت لي وليا ، أو عاديت لي عدوا ؟ .

[ ص: 433 ] حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد ، حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس ، حدثنا الحسن بن علي الرامقي ، حدثنا محمد بن عامر ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : قدمت امرأة مضحكة من أهل مكة فنزلت على امرأة مضحكة من أهل المدينة ، ثم جاءت عائشة تسلم عليها ، فقالت لها عائشة : أين نزلت ؟ قالت : على فلانة ، فقالت عائشة : صدق الله ورسوله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .

ومن دعاء الفضل الرقاشي : اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك وأرجو أن لا تفعل ، وإن فعلت لتجمعن بيننا وبين قوم عاديناهم فيك .

وأخبرنا بعض أصحابنا ، قال : أملى علي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الأزدي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من حفظه ، قال : حدثنا أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي قاضي حلب إملاء من حفظه ، حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري ، حدثنا محمد بن محمد بن أبي الورد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن [ ص: 434 ] مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لفلان العابد : أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحتك ، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : يا رب ، وما ذاك ؟ فقال : هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ؟ قال الأردني : هذا الحديث لم يسنده إلا محمد بن محمد بن أبي الورد ، والناس يوقفونه على ابن مسعود .

قال أبو عمر : قد أخبرنا به أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ ، عن أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي ، عن الغضائري بإسناده هذا موقوفا على ابن مسعود من قوله لم يرفعه .

وأخبرنا بعض أصحابنا أيضا ، قال : أملى علي أبو بكر محمد بن عبد الوهاب الإسفراييني الحافظ في المسجد الحرام من حفظه ، قال : حدثنا أبو الفضل أحمد بن حمدون الفقيه ، حدثنا علي بن عبد الحميد ، حدثنا ابن أبي الورد ، واسمه محمد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوحى الله إلى نبيه أن قل لفلان الزاهد : أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت راحة نفسك ، وأما انقطاعك إلي ، فقد تعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك ؟ قال : وما لك علي ؟ قال : هل واليت في وليا ، أو عاديت في عدوا ؟ قال الإسفراييني : هذا حديث غريب ورجاله ثقات تفرد به ابن أبي الورد ، عن سعيد بن منصور .

[ ص: 435 ] قال أبو عمر : أما قوله في هذا الحديث : ورجاله ثقات ، فليس كما قال ; لأن حميدا الأعرج هذا الذي يروي عن عبد الله بن الحارث منكر الحديث عند جميع أهل العلم بالنقل ، وهو حميد بن علي أبو يحيى الأعرج ، له عن عبد الله بن الحارث مناكير ، منها : عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : كلم الله موسى يوم كلمه ، وعليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف وكمة صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي رواه أيضا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلف بن خليفة ليس به بأس ، أصله الكوفة وسكن واسط ، وإليها ينسب ، ومات ببغداد سنة إحدى وثمانين .

قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم بن عبد الرحمن أن محمد بن معاوية حدثهم ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن العرباض بن سارية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : قال الله تبارك وتعالى : المتحابون لجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلالي وليس في الحديث حكم من أحكام الدنيا ، ولا معنى يشكل ، وقد مضى في بسط معناه [ ص: 436 ] بالآثار ، وغيرها كفاية .

وقد حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان المروزي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا قيس ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله عباد لا بأنبياء ، ولا بشهداء يغبطهم الأنبياء ، والشهداء بمكانهم من الله عز وجل قالوا : يا نبي الله من هم ؟ وما أعمالهم ؟ لعلنا نحبهم ، قال : قوم تحابوا بروح الله من غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، والله إن وجوههم نور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

وقد حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا محمد بن الحسين الحلبي ، حدثنا علي بن إسماعيل الشعري ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 437 ] أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى - قال - فأرصد الله على مدرجته ملكا ، فلما أتى عليه ، قال له : أين تريد ؟ قال : أريد أخا لي في هذه القرية ، قال : هل له عليك من نعمة تربها ؟ قال : لا ، ولكن أحببته في الله ، قال : فإني رسول الله إليك أنه قد أحبك كما أحببته فيه .

وحدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا محمد بن الحسين بن صالح الحلبي ، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن أبي جعفر البطناني ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تحاب رجلان في الله قط إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا أحمد بن أبي عبيد اللؤلؤي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا جعفر بن عون ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الأرواح جنود مجندة تتلاقى في الهواء فتتشام كما تتشام الخيل ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، ولو أن مؤمنا جاء إلى مجلس فيه مائة منافق ليس فيه إلا مؤمن واحد لقيض له حتى يجلس إليه .

[ ص: 438 ] وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : الأرواح جنود مجندة - جماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود ، وغيره إلا أن هذا اللفظ قول ابن مسعود .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا الحسن بن علي الرامقي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا محمد بن فضيل ، قال : أتيت أبا إسحاق الهمداني ، فقلت : أتعرفني ؟ قال : نعم ، ولولا الحياء منك لقبلتك ، سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله في قول الله لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم نزلت في المتحابين في الله .

وفي رسالة سفيان الثوري إلى عباد بن عباد ، رواه الفريابي عنه ، قال : المتحابون في الله هم المواسون فيه ، والمتباذلون فيه ، والمؤثرون لإخوانهم على أنفسهم بأموالهم .




الخدمات العلمية