الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          هذا وإن في المسألة مباحث نرجئ القول فيها إلى تفسير آيات السور الأخرى التي أشرنا إليها في سياق هذا الكلام ، ونختم الكلام هنا بمسألتين من متعلقاته :

                          ( المسألة الأولى : حظر إيذاء الرسول أو آله بذكر أبويه أو عمه بسوء .

                          إذا علمت أن حكمة بيان كتاب الله تعالى وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكفر من ذكر وعذابهم في النار هي تقرير أساس الدين وهو التوحيد على أكمل وجه ، فاعلم أن الذي يطلب شرعا هو أن يذكر ذلك في مقام التعليم ، وهو يشمل قراءة القرآن وتفسيره ، ورواية الحديث وشرحه - ومنه أو مثله السيرة النبوية وتاريخ الإسلام - وبيان عقيدة أهل السنة والجماعة ومن [ ص: 459 ] وافقهم من الفرق والرد على من خالفهم . ولا يجوز أن يتجاوز ذلك إلى ما يخل بالأدب ، ويؤذي الرسول أو آله بحسب أو نسب ، وناهيك بالأم والأب ، وبأبي طالب دون أبي لهب ، بل لا ينبغي أن يذكر أبو لهب بسوء موصوفا بكونه عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا في مقام التعليم والبيان الذي تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : " استأذن حسان بن ثابت النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين ، قال : كيف بنسبي فيهم ؟ فقال حسان : لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين " أي : لأخلصن نسبك من أنسابهم حتى لا يصيبه من الهجو شيء ، وفي رواية أنه استأذنه في هجو أبي سفيان ، فقال : " كيف بقرابتي منه ؟ فأجاب حسان بنحو ما تقدم ، وقد كان أبو سفيان يومئذ أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم .

                          ومن هدي علماء السلف في ذلك واقعتان ، رويتا عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وناهيك بعلمه وهديه . ( إحداهما ) أنه أتي بكاتب يخط بين يديه ، وكان أبوه كافرا ، فقال للذي جاء به : لو كنت جئت به من أولاد المهاجرين ، فقال الكاتب : ما ضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر أبيه . فقال عمر : قد جعلته مثلا ! لا تخط بين يدي بقلم أبدا . ( ثانيتهما ) أنه قال لسليمان بن سعد : بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق . قال : وما يضره ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قد كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - كافرا فما ضره . فغضب عمر غضبا شديدا وقال : ما وجدت له مثلا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فعزله عن الدواوين . ومنه أن الشافعي - رضي الله عنه - قال : وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة - أي يدها - لها شرف فكلم فيها ، فقال " لو سرقت فلانة - لامرأة شريفة - لقطعت يدها " وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - " لو سرقت فاطمة " فكنى الشافعي عن فاطمة - عليها السلام - ولم يذكر اسمها مبالغة في الأدب ، مع أن إسناد السرقة إليها في الحديث مفروض فرضا لا واقعا ، وهو يذكره في سياق الاستنباط من السنة الذي يجوز فيه ما هو أعظم من ذلك . ومن هذا القبيل : ما فعله أبو داود - رحمه الله تعالى - في حديث تعزية فاطمة - عليها السلام - في ميت وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها : " فلعلك بلغت معهم الكدى " أي المقابر ، قالت : معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر ، فقال لها كما في سنن النسائي : " لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " وأما أبو داود فرواه هكذا : قال : " لو بلغت معهم الكدى " فذكر تشديدا عظيما . اهـ . وقالوا : إنه ترك التصريح بآخر الحديث من باب الأدب .

                          فإن قيل : أي المحدثين خير عملا في هذا الحديث ؟ النسائي الذي رواه بلفظه ، وعمل بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ القول عنه كما سمع كما في حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد والترمذي ، وما في معناه من الأمر بتبليغ الشاهد الغائب في خطبة حجة الوداع كما في [ ص: 460 ] الصحيحين وغيرهما ، أم أبو داود الذي راعى الأدب بحذف ما حذف ؟ فالجواب أن الذي جرى عليه حملة السنة ومبلغوها للأمة من السلف الصالح ، وهو وجوب تبليغ النص بلفظه على من حفظه ، أو بمعناه إذا وعاه ووثق بقدرته على أدائه ، ولهؤلاء الأعلام أعظم منة في عنق الأمة الإسلامية بنقل السنة إليها كما رووها ، وضبط متونها ، ووزن أسانيدها بميزان الجرح والتعديل المستقيم ، والشافعي وأبو داود رحمهما الله تعالى من أئمتهم . وإنما يحسن مثل ما روي عنهما من الأدب العالي مع بضعة الرسول سيدة النساء - عليها السلام - إذا كان لا يضيع به شيء من الحديث ، كذكره لمن يعلم الأصل المروي أو لمن لا مصلحة له في العلم بنصه ، والله أعلم ، ولو كان أئمة الحديث يستبيحون حذف شيء منها لما وثقنا بنقلهم ، ولكن علم ضد ذلك من سيرتهم ومن روايتهم للأحاديث المشكلة كغيرها ، ومن جرحهم لمن غير أو بدل ، أو حذف أو زاد أو نقص ، أو خالف الثقات في شيء من المتون وإن كان غرضه التعظيم ، والظاهر أن الشافعي وأبا داود قالا ما قالا عالمين بأنه لا يضيع من الحديث شيئا ؛ لأنه محفوظ مشهور .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية