الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل أصل ذلك كله هو الفرق بين محبة الله ورضاه ، ومشيئته وإرادته الكونية ، ومنشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما ، أو اعتقاد تلازمهما ، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ، وقالوا : المشيئة والمحبة سواء ، أو متلازمان .

ثم اختلفوا ، فقالت الجبرية : الكون كله - قضاؤه وقدره ، طاعته ومعاصيه ، خيره وشره - فهو محبوبه .

ثم من تعبد منهم ، وسلك على هذا الاعتقاد رأى أن الأفعال جميعها محبوبة للرب ، إذ هي صادرة عن مشيئته ، وهي عين محبته ورضاه ، وفني في هذا الشهود الذي كان اعتقادا ، ثم صار مشهدا ، فلزم من ذلك ما تقدم ، من أنه لا يستقبح سيئة ، ولا يستنكر منكرا ، وتلك اللوازم الباطلة المنافية للشرائع جملة .

ولما ورد على هؤلاء قوله تعالى والله لا يحب الفساد ، ولا يرضى لعباده الكفر وقوله : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها واعتاص عليهم كيف يكون مكروها له ، وقد أراد كونه ؟ وكيف لا يحبه ، وقد أراد وجوده ؟ أولوا هذه الآيات ونحوها بأنه لا يحبها دينا ، ولا يرضاها شرعا ، ويكرهها كذلك ، بمعنى أنه لا يشرعها ، مع كونه يحب وجودها ويريده .

فشهدوا في مقام الفناء كونها محبوبة الوجود ، ورأوا أن المحبة تقتضي موافقة المحبوب فيما يحبه ، والكون كله محبوبه ، فأحبوا - بزعمهم - جميع ما في الكون ، وكذبوا وتناقضوا ، فإنما أحبوا ما تهواه نفوسهم وإرادتهم ، فإذا كان في الكون ما لا يلائم أحدهم ويكرهه طبعه أبغضه ، ونفر منه وكرهه ، مع كونه مرادا للمحبوب ، فأين الموافقة ؟ وإنما وافقوا أهواءهم وإراداتهم .

[ ص: 265 ] ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء ، وهذه قضاء من قضائه ، فنحن نرضى بها ، فما لنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها ، ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ؟ فتركب من اعتقادهم كونها محبوبة للرب ، وكونهم مأمورين بالرضا بها ، والتسوية بين الأفعال ، وعدم استقباح شيء منها أو إنكاره .

وانضاف إلى ذلك اعتقادهم جبر العبد عليها ، وأنها ليست فعله .

فلزم من ذلك رفع الأمر والنهي ، وطي بساط الشرع ، والاستسلام للقدر ، والذهاب معه حيث كان ، وصارت لهم هذه العقائد مشاهد ، وكل أحد إذا ارتاض وصفا باطنه تجلى له فيه صورة معتقده ، فهو يشاهدها بقلبه فيظنها حقا ، فهذا حال هذه الطائفة .

وقالت القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له ، فليست مقدرة له ولا مقضية ، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه .

قالوا : ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ، ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها ، فليست إذا بقضاء الله ، إذ الرضا والقضاء متلازمان ، كما أن محبته ومشيئته متلازمان ، أو متحدان .

وهؤلاء لا يجيء من سالكيهم وعبادهم ما جاء من سالكي الجبرية وعبادهم البتة ، لمنافاة عقائدهم لمشاهد أولئك وعقائدهم ، بل غايتهم التعبد والورع ، وهم في تعظيم الذنوب والمعاصي خير من أولئك ، وأولئك قد يكونون أقوى حالا وتأثيرا منهم .

فمنشأ الغلط التسوية بين المشيئة والمحبة ، واعتقادهم وجوب الرضا بالقضاء ، ونحن نبين ما في الفصلين إن شاء الله تعالى ، فإن القوة لله جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية