الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ومسألة البئر حجط ) أي ضابط حكم مسألة البئر حجط وصورتها جنب انغمس في البئر للدلو أو للتبرد ولا نجاسة على بدنه فعند أبي حنيفة الرجل والماء نجسان وعند أبي يوسف الرجل جنب على حاله والماء مطهر على حاله .

                                                                                        وعند محمد الرجل طاهر والماء طاهر طهور فالجيم من النجس علامة نجاستهما والحاء من الحال أي كلاهما بحاله ، والطاء من الطاهر فرتب حروفه على ترتيب الأئمة فالحرف الأول للإمام الأعظم والثاني للثاني والثالث للثالث وجه قول أبي حنيفة إن الفرض قد سقط عن بعض الأعضاء بأول الملاقاة ; لأن النية ليست بشرط لسقوط الفرض ، فإذا سقط الفرض صار الماء مستعملا عنده [ ص: 103 ] فيتنجس الماء والرجل باق على جنابته لبقاء الحدث في بقية الأعضاء ، وقيل عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل وصحح في شروح الهداية أنه نجس بالجنابة عنده وفائدة الخلاف تظهر في تلاوة القرآن ودخول المسجد إذا تمضمض واستنشق وفي فتاوى قاضي خان أن الأظهر أنه يخرج من الجنابة ثم يتنجس بالماء النجس حتى لو تمضمض واستنشق حل له قراءة القرآن ا هـ .

                                                                                        ووجه قول أبي يوسف إن الصب سطر لإسقاط الفرض عنده في غير الماء الجاري ، وما هو في حكمه ، ولو يوجد ، فكان الرجل جنبا بحاله ، فإذا لم يسقط الفرض ، ولم يوجد رفع الحدث ، ولا نية القربة لا يصير الماء مستعملا ، فكان بحاله ووجه قول محمد على ما هو الصحيح عنه إن الصب ليس بشرط عنده ، فكان الرجل طاهرا ولا يصير الماء مستعملا ، وإن أزيل به حدث للضرورة ، وأما على ما خرجه أبو بكر الرازي ، فإنه لا يصير الماء مستعملا عنده لفقد نية القربة ، وهي شرط عنده في صيرورته مستعملا وهذه المسألة أخذ منها أبو بكر الرازي الاختلاف في سبب استعمال الماء بين الأصحاب ، وقد تقدم أن أخذه منها غير لازم كما ذكره شمس الأئمة .

                                                                                        وقال الخبازي في حاشية الهداية قال القدوري : رحمه الله كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء ولا معنى ; لهذا الخلاف إذ لا نص فيه ، وإنما لم يأخذ الماء حكم الاستعمال في مسألة طلب الدلو لمكان الضرورة إذ الحاجة إلى الانغماس في البئر لطلب الدلو مما يتكرر فلو احتاجوا إلى الغسل عند نزح ماء البئر كل مرة لحرجوا حرجا عظيما وصار كالمحدث إذا اغترف الماء بكفه لا يصير مستعملا بلا خلاف ، وإن وجد إسقاط الفرض لمكان الضرورة بخلاف ما إذا أدخل غير اليد فيه صار الماء مستعملا . ا هـ .

                                                                                        وعن أبي حنيفة أن الرجل طاهر ; لأن الماء لا يعطي له حكم الاستعمال قبل الانفصال من العضو وقال الزيلعي والهندي وغيرهما تبعا لصاحب الهداية وهذه الرواية أوفق الروايات أي للقياس وفي فتح القدير وشرح المجمع أنه الرواية المصححة ا هـ .

                                                                                        وتعليلهم هذا يفيد أنه لو تمضمض واستنشق داخل البئر قبل انفصاله لا يخرج عن الجنابة لصيرورة الماء مستعملا قبل الانفصال ، وقد صرح به في السراج الوهاج فعلم بما قررناه أن المذهب المختار في هذه المسألة أن الرجل طاهر ، والماء طاهر غير طهور أما كون الرجل طاهرا على الصحيح فقد علمته وأما كون الماء مستعملا كذلك على الصحيح فقد علمته أيضا مما قدمناه قيدنا أصل المسألة بالجنب ; لأن الطاهر إذا انغمس لطلب الدلو ولم يكن على أعضائه نجاسة لا يصير الماء مستعملا اتفاقا لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة ، وإن انغمس للاغتسال صار مستعملا اتفاقا لوجود إقامة القربة وحكم الحدث حكم الجنابة ذكره في البدائع ، وكذا حكم الحائض والنفساء إذا نزلا بعد الانقطاع أما قبل الانقطاع ، وليس على أعضائهما نجاسة ، فإنهما كالطاهر إذا انغمس للتبرد [ ص: 104 ] ; لأنها لا تخرج من الحيض بهذا الوقوع فلا يصير الماء مستعملا كذا في فتاوى قاضي خان والخلاصة .

                                                                                        وقيدنا بكونه انغمس لطلب الدلو أو للتبرد لأنه لو انغمس بقصد الاغتسال للصلاة قالوا صار الماء مستعملا اتفاقا لوجود إزالة الحدث ونية القربة لكن ينبغي أن لا يزول حدثه عند أبي يوسف لما نقلوه عنه أن الصب شرط عنده في غير الماء الجاري ، وما هو في حكمه لإسقاط الفرض ، ولم أر من صرح بهذا وقد علمت فيما قدمناه في الكلام على ماء الفساقي أن قولهم بأن ماء البئر يصير مستعملا عند الكل مبني على قول ضعيف عن محمد والصحيح من مذهب محمد أن ماء البئر لا يصير مستعملا مطلقا ; لأن المستعمل هو ما تساقط عن الأعضاء ، وهو مغلوب بالنسبة إلى الماء الذي يستعمله فاحفظ هذا وكن على ذكر منه ينفعك إن شاء الله تعالى ثم رأيت بعد هذا العلامة ابن أمير حاج في شرح منية المصلي صرح بما ذكرته .

                                                                                        وقال الماء المستعمل هو الماء الذي لاقى الرجل الذي زال حدثه فيجب نزح جميع الماء على رواية نجاسة الماء المستعمل ولا يجب نزح شيء منها على رواية طهارته بل هو باق على طهوريته ، وقد عرفت أن الرواية الطهارة ، وهي المختارة ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا قولهم صار الماء مستعملا معناه صار الماء الملاقي للبدن مستعملا لا أن جميع ماء البئر صار مستعملا وقيدنا بقولنا ليس على أعضائه نجاسة حقيقية ; لأنه لو كان كذلك لتنجس الماء اتفاقا وقيد المسألة في المحيط بقوله ولم يتدلك فيه ولم يبين مفهومه وكذا في الخلاصة والظاهر منه أنه إذا نزل للدلو وتدلك في الماء صار الماء مستعملا اتفاقا ; لأن الدلك فعل منه قائم مقام نية الاغتسال ، فصار كما لو نزل للاغتسال وقيد المسألة بعضهم بأن لا يكون استنجى بالأحجار فمفهومه أنه لو كان مستنجيا بالأحجار تنجس الماء اتفاقا لكن هذا يبتني على أن الحجر في الاستنجاء مخفف لا مطهر .

                                                                                        وفيه خلاف ذكره في التجنيس وذكر أن المختار أنه مخفف لا مطهر وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه ، فإن قلت لم قال أبو يوسف بأن الصب شرط في العضو لا في الثوب ، وما الفرق بينهما قلت : روي عن أبي يوسف روايتان في رواية أن الصب شرط فيهما ، ووجهه أن القياس يأبى التطهير بالغسل ; لأن الماء يتنجس بأول الملاقاة ، وإنما حكمنا بالطهارة ضرورة أن الشرع كلفنا بالتطهير والتكليف يعتمد القدرة وسمي الماء طهورا ، وذلك يقتضي حصول الطهارة به والضرورة تندفع بطريق الصب ، فلا ضرورة إلى طريق آخر مع أن الماء حالة الصب بمنزلة ماء جار ، وفي غير حالة الصب راكد والراكد أضعف من الجاري وفي رواية أن الصب شرط في العضو لا في الثوب ، وهو المشهور عنه ووجهه أن غسل الثياب بطريق الصب لا يتحقق إلا بكلفة ومشقة ; لأنها تغسلها النساء عادة وكل امرأة لا تجد خادما يصب الماء عليها ولا ماء جاريا

                                                                                        وأما غسل البدن يتحقق بطريق الصب من غير كلفة كذا في النهاية وقال القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي جنب اغتسل في بئر ثم في بئر إلى العشرة قال أبو يوسف : تنجس الآبار كلها وقال محمد : يخرج من الثالثة طاهرا ثم ينظر إن كان على بدنه عين نجاسة تنجست المياه كلها ، وإن لم يكن عين نجاسة صارت المياه كلها مستعملة ثم بعد الثالثة إن وجدت منه النية يصيره مستعملا ، وإن لم توجد منه النية لا يصير مستعملا عنده ، ولو أنه غسل الثوب النجس في إجانة وعصره ثم في إجانة إلى العشرة ، فإن الثوب يخرج من الثالثة طاهرا والمياه الثلاثة نجسة في قولهم جميعا وأبو يوسف فرق بين الثوب والبدن فقال ; لأن في الثوب ضرورة ولا ضرورة في البدن ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى أن مقتضى مذهب أبي يوسف من اشتراط الصب أن لا تتنجس المياه كلها عنده لما أن الحدث لم يزل ونية الاغتسال ، وإن وجدت لكن لا اعتبار بها إذا لم يصح الغسل عنده وقد علمت فيما قدمناه عند الكلام على ماء الفساقي أن ما ذكره الإسبيجابي وغيره من كون ماء الآبار [ ص: 105 ] يصير مستعملا عند محمد مبني على القول الضعيف لا على الصحيح فارجع إليه تجد لك فرجا كبيرا إن شاء الله تعالى ، وقد ظهر لي أن قولهم بنجاسة ماء الآبار عند أبي يوسف وقولهم بنجاسة ماء البئر إذا نزل للاغتسال عنده مفرع على رواية عن أبي يوسف أن من نزل في البئر ، وهو جنب كان الماء نجسا والرجل نجس ، وقد ذكر هذه الرواية عنه الإسبيجابي وذكر هذه الفروع بعدها فالظاهر أنها مفرعة عليها لا على القول المشهور عنه أن الرجل بحاله والماء بحاله والله الهادي للصواب .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المصنف ومسألة البئر جحط ) قال في النهر وروي بخط النون روي ذلك عن أبي علي كما في غاية البيان [ ص: 103 ] ( قوله : وقيل عنده إلخ ) هذا مبني على أن الماء لا يعطي له حكم الاستعمال بأول الملاقاة ، ويدل على ذلك عبارة الخانية ، فإنها تفيد أن ينجس الماء بالاستعمال بعد الخروج من الجنابة ، وذلك بتمام الانغماس والإلزام بقاء الجنابة ثم الظاهر أن الرجل على القول الأول نجس بكل من نجاسة الجنابة ونجاسة الماء لملاقاة بقية جسده الماء المحكوم بنجاسته أول الملاقاة فتأمل .

                                                                                        ( قوله : للضرورة ) على هذا التعليل لا يناسب ما ذكره أولا في تصوير المسألة من قوله أو للتبرد ; لأنه لا ضرورة هناك بخلاف انغماسه لاستخراج الدلو تأمل ; ولذا اقتصر في الهداية على ذكر طلب الدلو ( قوله : فعلم بما قررنا إلخ ) قال سيدي العارف بالله عبد الغني في شرح الهداية .

                                                                                        والحاصل أن هذه المسألة مسألة البئر جحط الأقوال الثلاثة فيها ضعيفة ; لأن القولين الأولين مبنيان على نجاسة الماء المستعمل أما على قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله فظاهر .

                                                                                        وأما على قول أبي يوسف فالذي منع من الحكم بنجاسة الماء عدم وجود الصب عنده فلو وجد الحكم بالنجاسة ونجاسة المستعمل واشتراط الصب قولان ضعيفان والقول الثالث ، وهو قول محمد رحمه الله مبني على طهارة الماء المستعمل واشتراط نية القربة له أما طهارة المستعمل فقد ذكرنا فيما سبق أن ذلك هو الصحيح المفتى به ، وأما اشتراط نية القربة له فغير مأخوذ به لتصريحهم بأن الماء يصير مستعملا بكل من رفع الحدث والقربة وإسقاط الفرض كما سبق بيانه فيكون المفتى به على قول محمد طهارة الماء المستعمل فقط لاشتراط نية القربة ولكن فيه تلفيق في التقليد ، ولعل ذلك لا يضر ; لأن أقوال الصحب روايات عن أبي حنيفة كما هو المشهور والكل مذهبه فيصير الماء مستعملا على هذا ، وإن لم ينو القربة ، وهو طاهر غير طهور ا هـ .

                                                                                        والتلفيق إنما هو في قول أبي حنيفة ومحمد حيث أخذ بما روي عنه أن الرجل طاهر وبرواية محمد عنه أن المستعمل طاهر غير طهور ولم يؤخذ بقوله أنه مستعمل ، وهو نجس ولا بقول محمد أنه غير مستعمل ، وبه ظهر وجه قول الشارح أن الرجل طاهر ، والماء طاهر غير طهور

                                                                                        ( قوله : والماء طاهر غير طهور ) قال الرملي أقول : سيأتي قريبا أنه طاهر طهور على الصحيح [ ص: 104 ] ( قوله : لكن ينبغي إلخ ) أقول : فيه نظر ; لأنه مخالف لإطلاقهم الاتفاق وعبر في السراج بقوله بلا خلاف هكذا بقوله بالاتفاق إلا في قول زفر والذي يظهر لي أن أبا يوسف إنما يشترط الصب فيما إذا لم ينو الاغتسال ليجعل الصب قائما مقام النية ويدل عليه ما سيأتي من أنه لو تدلك صار مستعملا بالاتفاق لقيامه مقام نية الاغتسال ( قوله : وقد علمت فيما قدمناه في الكلام على ماء الفساقي إلخ ) أقول : قد قدمناه الكلام على ذلك فلا حاجة إلى الإعادة بعد إحاطتك بما هنالك وما نقله عن ابن أمير حاج لا يقوى على معارضته كلام الدبوسي المتقدم وعلى إطلاق عباراتهم باستعمال الماء اتفاقا ، وعلى هذا فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر ولا إلى تأويل الكلام بخلاف المتبادر منه إلى الأفهام ثم رأيت في شرح نظم الكنز للعلامة المقدسي قال ما نصه ، وأما تأويل الكلام بأن المراد بصيرورته مستعملا صيرورة ما لاقى أعضاءه منه مستعملا فهذا بعيد جدا إذ لا يحتاج إلى التنصيص على ذلك أصلا . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : والظاهر منه إذا نزل للدلو وتدلك في الماء صار الماء مستعملا ) أي إذا لم يكن تدلكه لإزالة الوسخ كما في شرح المنية للحلبي




                                                                                        الخدمات العلمية