الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : الذين يلمزون المطوعين . الآية . أخرج البخاري ، ومسلم ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في "المعرفة" عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مرائي وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون : إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا . فجاء عبد الرحمن فقال : يا رسول الله عندي أربعة آلاف؛ ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي، فقال : بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت . وجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني بت أجر الجرير فأصبت صاعين من تمر فصاعا أقرضه ربي وصاعا لعيالي . فلمزه المنافقون، قالوا : [ ص: 461 ] والله ما أعطى ابن عوف الذي أعطى إلا رياء، وقالوا : أولم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته وجاء المطوعون من المؤمنين وجاء أبو عقيل بصاع فقال : يا رسول الله بت أجر الجرير فأصبت صاعين من تمر فجئتك بأحدهما وتركت الآخر لأهلي قوتهم فقال المنافقون : ما جاء عبد الرحمن وأولئك إلا رياء وإن الله لغني عن صدقة أبي عقيل فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبغوي في "معجمه" والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في "المعرفة" عن أبي عقيل قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به وجئت بالآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرب به إلى ربي، فأخبرته بالذي كان فقال : انثره في المسجد، فسخر القوم وقالوا : لقد كان الله غنيا عن صاع هذا المسكين . فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين الآيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 462 ] وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : الذين يلمزون المطوعين الآية، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال : الذي تصدق بصاع التمر فلمزه المنافقون، أبو خيثمة الأنصاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البغوي في "معجمه"، وابن قانع، وابن مردويه ، عن سعيد بن عثمان البلوي عن جدته، أن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاعين الذي لمزه المنافقون - أخبرتها أنه خرج بصاع من تمر وابنته عميرة، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فصبه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن عساكر ، عن قتادة في قوله : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات قال : تصدق [ ص: 463 ] عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ثمانية آلاف دينار، فقال أناس من المنافقين : إن عبد الرحمن لعظيم الرياء، فقال الله عز وجل : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات وكان لرجل من الأنصار صاعان من تمر، فجاء بأحدهما فقال ناس من المنافقين : إن كان الله عن صاع هذا لغني . وكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون منهم، فقال الله عز وجل : والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو نعيم في "المعرفة" عن قتادة قال : أقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له : الحبحاب أبو عقيل فقال : يا نبي الله بت أجر الجرير الليلة على صاعين من تمر فأما صاع فأمسكته لأهلي وأما صاع فهو ذا، فقال المنافقون : إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع هذا . فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس بصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله هذه صدقة، فلمزه [ ص: 464 ] بعض القوم فقال : ما جاء بهذه عبد الرحمن إلا رياء . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، فقال بعض القوم : ما كان الله أغنى عن صاع أبي عقيل فنزلت : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات إلى قوله : فلن يغفر الله لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وكان لعبد الرحمن بن عوف ثمانية آلاف دينار، فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة فقال : هذا مال أقرضه الله وقد بقي مثله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت . وجاء أبو نهيك رجل من الأنصار بصاع تمر نزع عليه ليله كله فلما أصبح جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء . وقال للآخر : إن الله لغني عن صاع هذا . فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف : والذين لا يجدون إلا جهدهم صاحب الصاع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس في الآية قال : أصاب الناس جهد شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدقوا، فقال : أيها الناس، تصدقوا . فجعل أناس يتصدقون، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية من ذهب فقال : يا رسول الله، كان لي ثمانمائة أوقية من ذهب فجئت [ ص: 465 ] بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك له فيما أعطى، وبارك فيما أمسك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : لما كان يوم فطر أخرج عبد الرحمن بن عوف مالا عظيما، وأخرج عاصم بن عدي كذلك، وأخرج رجل صاعين، وآخر صاعا، فقال قائل من الناس : إن عبد الرحمن إنما جاء بما جاء به فخرا ورياء، وأما صاحب الصاع والصاعين فإن الله ورسوله أغنياء من صاع وصاع . فسخروا بهم فأنزلت فيهم هذه الآية : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتصدقوا، فقال عمر بن الخطاب : إنما ذلك مال وافر . فأخذ نصفه، قال : فجئت أحمل مالا كثيرا، فقال له رجل من المنافقين : أترائي يا عمر؟ قال : نعم، أرائي الله ورسوله فأما غيرهما فلا، قال : وجاء رجل من الأنصار لم يكن عنده شيء فواجر نفسه بجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته، فترك صاعا لعياله وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغني، فذلك قوله : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات [ ص: 466 ] وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة : الذين يلمزون المطوعين أي يطعنون على المطوعين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : والذين لا يجدون إلا جهدهم قال : هو رفاعة بن سعد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي في قوله : والذين لا يجدون إلا جهدهم قال : الجهد في القوت، والجهد في العمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن سفيان في الآية قال : الجهد جهد الإنسان، والجهد في ذات اليد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : كان الذي تصدق بجهده أبو عقيل، واسمه سهل بن رافع أتى بصاع من تمر فأفرغها في الصدقة، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صدقة أبي عقيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البغوي في "معجمه"، وأبو الشيخ ، عن الحسن قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما للناس فقال : يا أيها الناس تصدقوا، أشهد لكم بها يوم القيامة، ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله [ ص: 467 ] رواء، وابن عمه طاو، ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء، ألا رجل منح ناقة من إبله، يغدو برفد ويروح برفد، يغدو بصبوح أهل بيت ويروح بغبوقهم، ألا إن أجرها لعظيم . فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي أربعة ذود . فقام آخر قصير القمة قبيح السنة، يقود ناقة له حسناء جميلة، فقال رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها : ناقته خير منه . فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت، هو خير منك ومنها . ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي ثمانية آلاف، تركت أربعة منها لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله . فتكاثر المنافقون ما جاء به، ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : يا رسول الله، عندي سبعون وسقا جداد العام . فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا : جاء هذا بأربعة آلاف، وجاء هذا بسبعين وسقا، للرياء والسمعة، فهلا أخفياها؟ فهلا فرقاها؟ ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب، يكنى [ ص: 468 ] أبا عقيل فقال : يا رسول الله ما لي من مال غير أني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الحرير في عنقي على صاعين من تمر، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى . فلمزه المنافقون وقالوا : جاء أهل الإبل بالإبل، وجاء أهل الفضة بالفضة، وجاء هذا بتمرات يحملها فأنزل الله : الذين يلمزون المطوعين الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد "الزهد" عن أبي السليل قال : وقف علينا شيخ في مجلسنا فقال : حدثني أبي أو عمي أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع قال : من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة؟ فجاء رجل - لا والله ما بالبقيع رجل أشد سواد وجه منه، ولا أقصر قامة، ولا أذم في عين منه - بناقة - لا والله ما بالبقيع شيء أحسن منها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه صدقة؟ قال : نعم يا رسول الله . فلمزه رجل فقال : يتصدق بها! والله لهي خير منه . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته فقال : كذبت بل هو خير منك ومنها، كذبت بل هو خير منك ومنها . ثلاث مرار، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا من قال بيده هكذا وهكذا، وقليل ما هم . ثم قال : قد أفلح المزهد المجهد، قد أفلح المزهد المجهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود ، وابن خزيمة والحاكم وصححه عن أبي هريرة أنه [ ص: 469 ] قال : يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل وابدأ بمن تعول .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية