الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  235 100 - حدثنا أحمد بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت، تفجر دما، اللون لون الدم، والعرف عرف المسك.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  ذكروا في مطابقة هذا الحديث للترجمة أوجها كلها بعيدة؛ منها ما قاله الكرماني : وجه مناسبة هذا الحديث للترجمة من جهة المسك، فإن أصله دم انعقد، وفضلة نجسة من الغزال، فيقتضي أن يكون نجسا كسائر الدماء، وكسائر الفضلات، فأراد البخاري أن يبين طهارته بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم له، كما بين طهارة عظم الفيل بالأثر، فظهرت المناسبة غاية الظهور، وإن استشكله القوم غاية الاستشكال، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لم تظهر المناسبة بهذا الوجه أصلا، وظهورها غاية الظهور بعيد جدا، واستشكال القوم باق؛ ولهذا قال الإسماعيلي : إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب لا وجه له؛ لأنه لا مدخل له في طهارة الدم، ولا نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله تعالى، قال بعضهم: وأجيب بأن مقصود المصنف إيراده تأكيدا لمذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير؛ وذلك لأن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة إلى طيب المسك أخرجه من النجاسة إلى الطهارة، فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى صفة النجاسة، فإذا لم يوجد التغير لم توجد النجاسة، قلت: هذا القائل أخذ هذا من كلام الكرماني، فإنه نقله في شرحه عن بعضهم، ثم قال هذا القائل، وتعقب بأن الغرض إثبات انحصار التنجس بالتغير، وما ذكر يدل على أن التنجس يحصل بالتغير، وهو باق لا أنه لا يحصل إلا به، وهو موضع النزاع، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا أيضا كلام الكرماني، ولكنه سبكه في صورة غير ظاهرة، وقول الكرماني هكذا، فنقول للبخاري : لا يلزم من وجود الشيء عند الشيء أن لا يوجد عند عدمه لجواز مقتض آخر، ولا يلزم من كونه خرج بالتغير إلى النجاسة أن لا يخرج إلا به لاحتمال وصف آخر يخرج به عن الطهارة بمجرد الملاقاة، انتهى.

                                                                                                                                                                                  حاصل هذا أنه وارد على قولهم: إن مقصود البخاري من إيراد هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قاله ابن بطال : إنما ذكر البخاري هذا الحديث في باب نجاسة الماء لأنه لم يجد حديثا صحيح السند في الماء، فاستدل على حكم المائع بحكم الدم المائع، وهو المعنى الجامع بينهما، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا أيضا وجه غير حسن لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قاله ابن رشد، وهو أن مراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد، وهو الرائحة على وصفين، وهما الطعم واللون، فيستنبط منه أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد تبعه الوصفان الباقيان، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا ظاهر الفساد؛ لأنه يلزم منه أنه إذا وصف واحد بالنجاسة أن لا يؤثر حتى يوجد الوصفان الآخران، وليس كذلك، فإن هذا لم ينقل إلا عن ربيعة، وليس بصحيح، ومنها ما قاله ابن المنير : لما تغيرت صفته إلى صفة طاهرة بطل حكم النجاسة فيه.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قاله القشيري : المراعاة في الماء بتغير لونه دون رائحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الخارج من جرح الشهيد دما، وإن كان ريحه ريح المسك، ولم يقل: مسكا، وغلب اسم المسك لكونه على رائحته، فكذلك الماء ما لم يتغير طعمه.

                                                                                                                                                                                  وكل هؤلاء خارجون عن الدائرة، ولم يذكر أحد منهم وجها صحيحا ظاهرا لإيراد هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث في بيان فضل الشهيد على أن الحكم المذكور فيه من أمور الآخرة، والحكم في الماء بالطهارة والنجاسة من أمور الدنيا، وكيف يلتئم هذا بذاك.

                                                                                                                                                                                  ورعاية المناسبة في مثل هذه الأشياء بأدنى وجه يلمح فيه كافية، والتكلفات بالوجوه البعيدة غير مستملحة، ويمكن أن يقال: وجه المناسبة في هذا أنه لما كان مبنى الأمر في الماء التغير بوقوع النجاسة، وأنه يخرج عن كونه صالحا للاستعمال لتغير صفته التي خلق عليها أورد له نظيرا بتغير دم الشهيد، فإن مطلق الدم نجس، ولكنه تغير بواسطة الشهادة في سبيل الله؛ ولهذا لا يغسل عنه دمه ليظهر شرفه يوم القيامة لأهل الموقف بانتقال صفته المذمومة [ ص: 165 ] إلى الصفة المحمودة حيث صار انتشاره كرائحة المسك، فافهم، فإن هذا المقدار كاف.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله): وهم خمسة: الأول اختلفوا فيه أنه أحمد بن محمد بن أبي موسى المروزي المعروف بمردويه، هكذا قاله الحاكم أبو عبد الله، والكلاباذي، والإمام أبو نصر حامد بن محمود بن علي الفزاري في كتابه مختصر البخاري، وذكر الدارقطني أنه أحمد بن محمد بن عدي عرف بشبويه، وقال أبو أحمد بن عدي: ابن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن معمر لا يعرف، ومردويه مات سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأخرج له الترمذي، والنسائي، وقال: لا بأس به، وشبويه مات سنة تسع وعشرين أو ثلاثين ومائة، وروى عنه أبو داود . الثاني: عبد الله بن المبارك، الثالث: معمر بفتح الميمين، وسكون العين المهملة، وبالراء ابن راشد تقدم في كتاب الوحي، هو وابن المبارك . الرابع: همام على وزن فعال بالتشديد ابن المنبه بكسر الباء الموحدة بعد النون المفتوحة، تقدم في باب حسن إسلام المرء. الخامس: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه أن رواته ما بين مروزي، وبصري، ومدني.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الجهاد، وأخرجه مسلم أيضا في الجهاد، وأخرجه ابن عساكر مضعفا عن أبي أمامة يرفعه: " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله تعالى أعلم بمن يكلم " فذكره، وفي لفظ: "ما وقعت قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة دمع في سواد الليل لا يراها إلا الله تعالى".

                                                                                                                                                                                  (بيان لغاته ومعناه) قوله: " كلم " بفتح الكاف وسكون اللام، قال الكرماني : أي جراحة، وليس كذلك، بل الكلم الجرح من كلمه يكلمه كلما إذا جرحه من باب ضرب يضرب، والجمع كلوم، وكلام، ورجل كليم، ومكلوم أي: مجروح، ومنه اشتقاق الكلام من الاسم والفعل والحرف. قوله: "يكلمه المسلم" بضم الياء، وسكون الكاف، وفتح اللام أي يكلم به، فحذف الجار، وأوصل المجرور إلى الفعل، والمسلم مرفوع؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله. قوله: " في سبيل الله " قيد يخرج به ما إذا كلم الرجل في غير سبيل الله، وفي رواية البخاري في الجهاد من طريق الأعرج، عن أبي هريرة : " والله تعالى أعلم بمن يكلم في سبيله ". قوله: "كهيئتها " أي: كهيئة الكلمة، وأنث الضمير باعتبار الكلمة، وقال الكرماني وتبعه بعضهم: تأنيث الضمير باعتبار إرادة الجراحة، قلت: ليس كذلك، بل باعتبار الكلمة؛ لأن الكلم والكلمة مصدران، والجراحة اسم لا يعبر به عن المصدر، مع أن بعضهم قال: ويوضحه رواية القابسي، عن أبي زيد المروزي، عن الفربري "كل كلمة يكلمها"، وكذا هو في رواية ابن عساكر، قلت: هذا يوضح ما قلت لا ما قاله، فافهم. قوله: "إذ طعنت" أي: حين طعنت، وفي بعض النسخ وجميع نسخ مسلم : "إذا طعنت"، بلفظ إذا مع الألف، قال الكرماني : فإن قلت: إذا للاستقبال، ولا يصح المعنى عليه، قلت: هو ها هنا لمجرد الظرفية، إذ هو بمعنى إذ، وقد يتعاقبان، أو هو لاستحضار صورة الطعن إذ الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع كما في قوله تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا ، يكون أيضا بما في معنى المضارع، كما نحن فيه، وقال الكرماني أيضا: ما وجه التأنيث في طعنت، والمطعون هو المسلم؟ قلت: أصله طعن بها، وقد حذف الجار ثم أوصل الضمير المجرور إلى الفعل، وصار المنفصل متصلا، قلت: هذا تعسف، بل التأنيث فيها باعتبار الكلمة كما في هيئتها؛ لأنها هي المطعونة في الحقيقة، والذي يكلم إنما يسمى مطعونا باعتبار الكلمة، والطعنة. قوله: " تفجر " بتشديد الجيم؛ لأن أصله تتفجر، فحذفت إحدى التاءين كما في قوله: نارا تلظى ، أصله تتلظى، وقال الكرماني : تفجر بضم الجيم من الثلاثي، وبفتح الجيم المشددة، وحذفت التاء الأولى منه من التفعل، قلت: أشار بهذا إلى جواز الوجهين فيه، ولكنه مبني على مجيء الرواية بهما. قوله: " واللون "، وفي بعض النسخ "اللون" بدون الواو، واللون من المبصرات، وهو أظهر المحسوسات حقيقة ووجودا؛ فلذلك استغنى عن تعريفه، وإثباته بالدليل، ومن القدماء من زعم أنه لا حقيقة للألوان أصلا، ومنهم من ظن أن اللون الحقيقي ليس إلا السواد والبياض، وما عداهما إنما يحصل من تركيبهما، ومنهم من زعم أن الألوان الحقيقية خمسة: السواد، والبياض، والحمرة، والخضرة، والصفرة، وجعل البواقي مركبة منها، والدم أصله دمو بالتحريك، وإنما قالوا: دمي يدمى لأجل الكسرة التي قبل الياء كما قالوا: رضي يرضى من الرضوان، وقالسيبويه : أصله دمي بالتحريك، وإن جاء جمعه مخالفا لنظائره، والذاهب منه الياء، والدليل عليها قولهم في تثنيته: دميان، وبعض العرب يقول في تثنيته: دموان. قوله [ ص: 166 ] : " عرف المسك " بكسر الميم، وهو معرب "مشك" بالشين المعجمة، وضم الميم، ويروى: عرف مسك منكرا، وكذلك الدم يروى منكرا. قوله: " والعرف " بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وفي آخره فاء، وهي الرائحة الطيبة، والمنتنة أيضا.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الفوائد) منها أن الحكمة في كون دم الشهيد يأتي يوم القيامة على هيئته أنه يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله، ومنها كونه على رائحة المسك إظهارا لفضيلته لأهل المحشر؛ ولهذا لا يغسل دمه، ولا هو يغسل خلافا لسعيد بن المسيب والحسن، ومنها الدلالة على فضل الجراحة في سبيل الله، ومنها أن قوله: "عرف المسك" لا يستلزم أن يكون مسكا حقيقة، بل يجعله الله شيئا يشبه هذا، ولا كونه دما يستلزم أن يكون دما نجسا حقيقة، ويجوز أن يحوله الله إلى مسك حقيقة لقدرته على كل شيء كما أنه يحول أعمال بني آدم من الحسنات والسيئات إلى جسد ليوزن في الميزان الذي ينصبه يوم القيامة، والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية