الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الموقعون للثلاث : الكلام معكم في مقامين :

أحدهما : تحريم جمع الثلاث . والثاني : وقوعها جملة ولو كانت محرمة ، ونحن نتكلم معكم في المقامين . فأما الأول :

فقد قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه ، وجماعة من أهل الظاهر : إن جمع الثلاث سنة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 236 ] ، ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة ، أو مفرقة ، ولا يجوز أن نفرق بين ما جمع الله بينه ، كما لا نجمع بين ما فرق الله بينه . وقال تعالى : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) [ البقرة : 227 ] ، ولم يفرق وقال : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ) الآية ، ولم يفرق وقال : [ ص: 231 ] ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) [ البقرة : 241 ] ، وقال : ( ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) [ الأحزاب : 49 ] ، ولم يفرق . قالوا : وفي " الصحيحين " ، ( أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يأمره بطلاقها ) . قالوا : فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته ، أو حين حرمت عليه باللعان . فإن كان الأول ، فالحجة منه ظاهرة ، وإن كان الثاني ، فلا شك أنه طلقها ، وهو يظنها امرأته ، فلو كان حراما لبينها له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت قد حرمت عليه . قالوا : وفي " صحيح البخاري " ، من حديث القاسم بن محمد ، عن عائشة أم المؤمنين ، ( أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت ، فطلقت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ) ، فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث ، وعلى وقوعها ، إذ لو لم تقع ، لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها .

قالوا : وفي " الصحيحين " من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ( أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ، ثم انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة أم المؤمنين ، فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا ، فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس لها نفقة وعليها العدة ) .

[ ص: 232 ] وفي " صحيح مسلم " في هذه القصة : ( قالت فاطمة ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كم طلقك " ؟ ، قلت : ثلاثا ، فقال : " صدق، ليس لك نفقة ) .

وفي لفظ له : ( قالت : يا رسول الله ! إن زوجي طلقني ثلاثا ، وإني أخاف أن يقتحم علي ) .

وفي لفظ له : عنها ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المطلقة ثلاثا : " ليس لها سكنى ولا نفقة ) .

قالوا : وقد روى عبد الرزاق في " مصنفه " عن يحيى بن العلاء ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ، ( عن داود بن عبادة بن الصامت ، قال : طلق جدي امرأة له ألف تطليقة ، فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما اتقى الله جدك ، أما ثلاث فله ، وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم ، إن شاء الله عذبه ، وإن شاء غفر له ) .

ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران ، ( عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه ، عن جده قال : طلق بعض آبائي امرأته ، فانطلق بنوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ! إن أبانا طلق أمنا ألفا ، فهل له من مخرج ؟ فقال : إن أباكم لم يتق الله ، فيجعل له مخرجا ، بانت منه بثلاث [ ص: 233 ] على غير السنة ، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه ) .

قالوا : وروى محمد بن شاذان ، عن معلى بن منصور ، عن شعيب بن زريق ، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن ، قال : ( حدثنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه طلق امرأته وهي حائض ، ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرأين الباقيين ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا ابن عمر ! ما هكذا أمرك الله ، أخطأت السنة " .. وذكر الحديث ، وفيه ، فقلت : يا رسول الله ! لو كنت طلقتها ثلاثا ، أكان لي أن أجمعها ، قال : " لا ، كانت تبين وتكون معصية ) .

قالوا : وقد روى أبو داود في " سننه " : ( عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة ، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله ما أردت إلا واحدة ؟ " فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمن عثمان ) .

وفي " جامع الترمذي " : ( عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ، عن أبيه ، عن جده أنه طلق امرأته البتة ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أردت بها ؟ قال : واحدة ، قال : " آلله " ، قال : آلله ، قال : " هو على ما أردت ) ، قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ؟ فقال فيه اضطراب .

ووجه الاستدلال بالحديث ، أنه - صلى الله عليه وسلم - أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة ، فدل على أنه لو أراد بها أكثر ، لوقع ما أراده ، ولو لم يفترق الحال لم يحلفه .

[ ص: 234 ] قالوا : وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثا . قال أبو داود : لأنهم ولد الرجل ، وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة .

قالوا : وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع . فإن كان عبيد الله فهو ثقة معروف ، وإن كان غيره من إخوته ، فمجهول العدالة لا تقوم به حجة .

قالوا : وأما طريق الإمام أحمد ، ففيها ابن إسحاق ، والكلام فيه معروف ، وقد حكى الخطابي أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها .

قالوا : وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عباس ، وقد قال البيهقي : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم ، فأخرجه مسلم وتركه البخاري ، وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ، ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ، ثم قال : فهذه رواية سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن الحارث ، ومحمد بن إياس بن البكير - قال : ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري - كلهم عن ابن عباس ، أنه أجاز الثلاث وأمضاهن .

وقال ابن المنذر : فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يفتي بخلافه .

وقال الشافعي : فإن كان معنى قول ابن عباس : إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة ، يعني أنه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئا فنسخ . قال البيهقي : ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ما رواه أبو داود والنسائي ، من حديث عكرمة في قوله تعالى : [ ص: 235 ] ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) الآية . .. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك ، فقال : ( الطلاق مرتان ) )

قالوا : فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت ، بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها ، كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ، ثم نسخ ذلك .

وقال ابن سريج : يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث ، وهو أن يفرق بين الألفاظ ، كأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، وكان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر - رضي الله عنه - الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخب والخداع ، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد ، ولا يريدون به الثلاث ، فلما رأى عمر - رضي الله عنه - في زمانه أمورا ظهرت ، وأحوالا تغيرت ، منع من حمل اللفظ على التكرار ، وألزمهم الثلاث .

وقالت طائفة : معنى الحديث أن الناس كانت عادتهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الواحدة ، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ، ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة ، وتتابعوا فيه ، ومعنى الحديث على هذا : كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة ، فهو إخبار عن الواقع ، لا عن المشروع .

[ ص: 236 ] وقالت طائفة : ليس في الحديث بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجعل الثلاث واحدة ، ولا أنه أعلم بذلك فأقر عليه ، ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله ، أو علم به فأقر عليه ، ولا يعلم صحة واحدة من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء .

قالوا : وإذا اختلفت علينا الأحاديث ، نظرنا إلى ما عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أعلم بسنته ، فنظرنا فإذا الثابت عن عمر بن الخطاب الذي لا يثبت عنه غيره ما رواه عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، ( حدثنا زيد بن وهب ، أنه رفع إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفا ، فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ فقال : إنما كنت ألعب ، فعلاه عمر بالدرة ، وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث ) .

وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : ( جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فقال : إني طلقت امرأتي ألفا ، فقال له علي : بانت منك بثلاث ، واقسم سائرهن بين نسائك ) .

وروى وكيع أيضا ، عن جعفر بن برقان ، عن معاوية بن أبي يحيى ، قال : ( جاء رجل إلى عثمان بن عفان ، فقال : طلقت امرأتي ألفا ، فقال : بانت منك بثلاث ) .

وروى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : ( قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي ألفا ، فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك ، وبقيتها عليك وزر ، اتخذت آيات الله هزوا ) .

[ ص: 237 ] وروى عبد الرزاق أيضا ، عن معمر عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : ( جاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال : إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين ، فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها منك ، وسائرهن عدوان ) .

وذكر أبو داود في " سننه " ، ( عن محمد بن إياس ، أن ابن عباس ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا ، فكلهم قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) .

قالوا : فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون قد أوقعوا الثلاث جملة ، ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدث الملهم وحده ، لكفى ، فإنه لا يظن به تغيير ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطلاق الرجعي ، فيجعله محرما ، وذلك يتضمن تحريم فرج المرأة على من لم تحرم عليه ، وإباحته لمن لا تحل له ، ولو فعل ذلك عمر ، لما أقره عليه الصحابة ، فضلا عن أن يوافقوه ، ولو كان عند ابن عباس حجة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الثلاث واحدة لم يخالفها . ويفتي بغيرها موافقة لعمر ، وقد علم مخالفته له في العول ، وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات ، وغير ذلك .

قالوا : ونحن في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم أعلم بسنته وشرعه ، ولو كان مستقرا من شريعته أن الثلاث واحدة وتوفي والأمر على ذلك لم يخف عليهم ، ويعلمه من بعدهم ، ولم يحرموا الصواب فيه ، ويوفق له من بعدهم ، ويروي حبر الأمة وفقيهها خبر كون الثلاث واحدة ويخالفه .

التالي السابق


الخدمات العلمية