الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال المانعون من وقوع الثلاث : التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله سبحانه وتعالى أصدق قسم وأبره ، أنا لا نؤمن حتى نحكمه [ ص: 238 ] فيما شجر بيننا ، ثم نرضى بحكمه ، ولا يلحقنا فيه حرج ، ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان ، اللهم إلا أن تجمع أمته إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم ، فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ، ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت المسألة به ، بل وبدونه ، ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة ، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله ، أو نصا ثابتا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو إجماعا متيقنا لا شك فيه ، وما عدا هذا فعرضة لنزاع ، وغايته أن يكون سائغ الاتباع لا لازمه ، فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم ، وقد قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] ، فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة ، فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله البتة ، وسيأتي أننا أحق بالصحابة ، وأسعد بهم فيها ، فنقول :

أما منعكم لتحريم جمع الثلاث ، فلا ريب أنها مسألة نزاع ، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجة عليكم .

أما قولكم : إن القرآن دل على جواز الجمع ، فدعوى غير مقبولة ، بل باطلة ، وغاية ما تمسكتم به إطلاق القرآن للفظ الطلاق ، وذلك لا يعم جائزه ومحرمه ، كما لا يدخل تحته طلاق الحائض ، وطلاق الموطوءة في طهرها ، وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة الصحيحة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ، ومعلوم أن القرآن لم يدل على جواز كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه ، وإنما دل على أحكام الطلاق ، والمبين عن الله عز وجل بين حلاله وحرامه ، ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الاستدلال ، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها ، إلا أن يكون آخر العدد ، وهذا كتاب الله بيننا وبينكم ، وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة ، وبينت شروطها وأحكامها .

[ ص: 239 ] وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أصحه من حديث ، وما أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده ، كما يقوله الشافعي ، أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم ، كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه ، فالاستدلال به باطل ، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئا ، وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم ، لم يصح الاستدلال به أيضا لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه ، بل هو واجب الإزالة ، ومؤبد التحريم ، فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ، ومقرر له ، فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره ، وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ، ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ، ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض ، أو نفساء أو في طهر جامعها فيه ، لم يكن عاصيا ، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم ، ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الطلاق المذكور ، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن ، وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم ، فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين ، مقرون لما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكرون لما أنكره .

وأما استدلالكم بحديث عائشة - رضي الله عنها - ( أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى تذوق العسيلة ) ، فهذا لا ننازعكم فيه ، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ، بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا ، وقال ثلاثا إلا من فعل ، وقال : مرة بعد [ ص: 240 ] مرة ، هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال : قذفه ثلاثا ، وشتمه ثلاثا ، وسلم عليه ثلاثا .

قالوا : وأما استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس ، فمن العجب العجاب ، فإنكم خالفتموه فيما هو صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا ، وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته ، وعدم ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل ، بل بيانه في نفس الحديث مما يبطل تعلقكم به ، فإن قوله : طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها ، بل كما تقدم ، كيف وفي " الصحيح " في خبرها نفسه من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها .

وفي لفظ في " الصحيح " : أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وهو سند صحيح متصل مثل الشمس ، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل ، وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم ؟

قالوا : وأما استدلالكم بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه عبد الرزاق ، فخبر في غاية السقوط ؛ لأن في طريقه يحيى بن العلاء ، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف ، عن هالك ، عن مجهول ، ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه ، أنه لم يعرف في شيء من الآثار صحيحها ولا سقيمها ، ولا متصلها ولا منقطعها ، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام ، فكيف بجده ، فهذا محال بلا شك ، وأما حديث عبد الله بن عمر ، فأصله صحيح بلا شك ، لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه ، فقلت : يا رسول الله لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زريق ، وهو الشامي ، وبعضهم يقلبه ، فيقول : زريق بن شعيب ، [ ص: 241 ] وكيفما كان ، فهو ضعيف ، ولو صح ، لم يكن فيه حجة ، لأن قوله : لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله : لو سلمت ثلاثا ، أو أقررت ثلاثا ، أو نحوه مما لا يعقل جمعه .

وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود ، أن ركانة طلق امرأته البتة ، فأحلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد إلا واحدة ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ، ولا يدرى من هو ، ولا ما هو على ابن جريج ، ومعمر ، وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء ، وقد شهد إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا ، هكذا قال الترمذي في " الجامع " ، وذكر عنه في موضع آخر : أنه مضطرب . فتارة يقول : طلقها ثلاثا ، وتارة يقول : واحدة ، وتارة يقول : البتة . وقال الإمام أحمد : وطرقه كلها ضعيفة ، وضعفه أيضا البخاري ، حكاه المنذري عنه .

ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع ، هذا وأولاده تابعيون ، وإن كان عبيد الله أشهرهم وليس فيهم متهم بالكذب ، وقد روى عنه ابن جريج ، ومن يقبل رواية المجهول ، أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له ، فهذا حجة عنده ، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة ، أو أشد ، فكلا ، فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ، ويعدل إلى غيرهما ، وإذا فعلنا ذلك ، نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم ، فوجدناه صحيح الإسناد ، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق ، بقوله : حدثني داود بن الحصين ، وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع ، وقد صحح هو وغيره بهذا [ ص: 242 ] الإسناد بعينه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ، ولم يحدث شيئا .

وأما داود بن الحصين ، عن عكرمة ، فلم تزل الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر ، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به ، وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته ، وارتضاء البخاري لإدخال حديثه في " صحيحه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية