الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5401 - وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ستكون فتنة تستنظف العرب ، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف " . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


5401 - ( وعن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ستكون فتنة " ) أي : عظيمة وبلية جسيمة ( تستنظف العرب ) أي : تستوعبهم هلاكا ، من استنظفت الشيء أخذته كله ، كذا في النهاية وبعض الشراح ، وقيل : أي تطهرهم في الأرذال وأهل الفتن ، ( قتلاها ) : جمع قتيل بمعنى مقتول مبتدأ خبره قوله : ( إلى النار ) أي : سيكون في النار أو هم حينئذ في النار ; لأنهم يباشرون ما يوجب دخولهم فيها ، كقوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال القاضي - رحمه الله : المراد بقتلاها من قتل في تلك الفتنة ، وإنما هم من أهل النار ; لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق ، وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعا في المال والملك ، ( " اللسان " ) أي : وقعه وطعنه على تقدير مضاف ، ويدل عليه رواية : وإشراف اللسان ، أي : إطلاقه وإطالته ( فيها أشد من وقع السيف ) . وقال الطيبي - رحمه الله : القول والتكلم فيها إطلاقا للمحل وإرادة الحال ، اهـ .

[ ص: 3397 ] والحاصل أنه لا بد من ارتكاب أحد المجازين المذكورين في قوله تعالى : واسأل القرية قال المظهر : يحتمل هذا احتمالين ، أحدهما : أن من ذكر أهل تلك الحرب بسوء يكون كمن حاربهم ; لأنهم مسلمون وغيبة المسلمين إثم . قلت : وفيه أنه ورد : اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس ، ولا غيبة لفاسق ، ونحو ذلك ، فلا يصح هذا على إطلاقه ; ولذا استدرك كلامه بقوله : ولعل المراد بهذه الفتنة الحرب التي وقعت بين أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وبين معاوية - رضي الله عنه - ولا شك أن من ذكر أحدا من هذين الصدرين وأصحابهما يكون مبتدعا ; لأن أكثرهم كانوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم : " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " أي : عن الطعن فيهم ، فإن رضا الله تعالى في مواضع من القرآن تعلق بهم ، فلا بد أن يكون مآلهم إلى التقوى ورضا المولى وجنة المأوى ، وأيضا لهم حقوق ثابتة في ذمة الأمة ، فلا ينبغي لهم أن يذكروهم إلا بالثناء الجميل والدعاء الجزيل ، وهذا مما لا ينافي أن يذكر أحد مجملا أو معينا بأن المحاربين مع علي ما كانوا من المخالفين ، أو بأن معاوية وحزبه كانوا باغين على ما دل عليه حديث عمار : " تقتلك الفئة الباغية " ; لأن المقصود منه بيان الحكم المميز بين الحق والباطل والفاصل بين المجتهد المصيب ، والمجتهد المخطئ ، مع توقير الصحابة وتعظيمهم جميعا في القلب لرضا الرب ; ولذا لما سئل بعض الأكابر : عمر بن عبد العزيز أفضل أم معاوية ؟ قال : لغبار أنف فرس معاوية حين غزا في ركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من كذا وكذا من عمر بن عبد العزيز . إذ من القواعد المقررة أن العلماء والأولياء من الأمة لم يبلغ أحد منهم مبلغ الصحابة الكبراء ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكذا قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، وقوله : والسابقون السابقون أولئك المقربون . قال المظهر : والثاني أن المراد به أن من مد لسانه فيه بشتم أو غيبة يقصدونه بالضرب والقتل ، ويفعلون به ما يفعلون بمن حاربهم ، اهـ .

وحاصله أن الطعن في إحدى الطائفتين ومدح الأخرى حينئذ مما يثير الفتنة ، فالواجب كف اللسان ، وهذا المعنى في غاية من الظهور ، فتأمل ، لكن الطيبي رجح المعنى الأول ; حيث قال : ويؤيده قوله : ولعل المراد بهذه الفتنة إلخ . ما روينا عن الأحنف بن قيس قال : خرجت وإنما أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال : أين تريد يا أحنف ؟ قلت : أريد نصر ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقال : يا أحنف ! ارجع ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، قال : فقلت : يا رسول الله ! هذا القاتل فما بال المقتول ؟ ، قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه "متفق عليه .

قلت : مجمل هذا الحديث إذا كان القتال بين المسلمين على جهة العصبية والحمية الجاهلية كما يقع كثيرا فيما بين أهل حارة وحارة ، وقرية وقرية ، وطائفة وطائفة من غير أن يكون هناك باعث شرعي لأحدهما ، ولا يصح حمل الحديث على إطلاقه الشامل لقضية صفين ونحوها ; لئلا ينافي قوله تعالى جل شأنه : فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ، ولأن الإجماع على أن قتلى طائفة علي ليسوا في النار ، فكلام أبي بكرة إما محمول على أنه كان مترددا متحيرا في أمر علي ومعاوية ، ولم يكن يعرف الحق من الباطل ، ولم يميز أحدهما من الآخر ، وإما فهم من كلام الأحنف أنه يريد حماية العصبية لا إعلاء الكلمة الدينية على ما يشير إليه قوله : أريد نصر ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل أريد معاونة الإمام الحق والخليفة المطلق ، وبهذا يتبين أن حمل هذه الفتنة على قضية علي لا يجوز ، ويؤول بما قال الطيبي - رحمه الله - وأما قوله : قتلاها في النار للزجر والتوبيخ والتغليط عليهم ، وأما كف الألسنة عن الطعن فيهم ، فإن كلا منهم مجتهد ، وإن كان علي - رضي الله عنه - مصيبا ، فلا يجوز الطعن فيهما ، والأسلم للمؤمنين أن لا يخوضوا في أمرهما . قال عمر بن عبد العزيز : تلك دماء طهر الله أيدينا منها فلا نلوث ألسنتنا بها .

[ ص: 3398 ] قال النووي - رحمه الله : كان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ ; لأنه كان بالاجتهاد ، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه ، وكان علي - رضي الله عنه - هو المحق المصيب في تلك الحروب ، وهذا مذهب أهل السنة ، وكانت القضايا مشتبهة ، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها ، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ، ولو تيقنوا الصواب لم يتأخروا عن مساعدته .

قلت : وسبب هذا التحير لم يكن في أن عليا أحق بالخلافة أم معاوية ؟ لأنهم أجمعوا على ولاية علي ، واجتمع أهل الحل والعقد على خلافته ، وإنما وقع النزاع بين معاوية وعلي في قتلة عثمان ; حيث تعلل معاوية بأني لم أسلم لك الأمر حتى تقتل أهل الفساد والشرور ممن حاصر الخليفة وأعان على قتله ، فإن هذا ثلمة في الدين وخلل في أئمة المسلمين ، واقتضى رأي على ، وهو الصواب ، أن قتل فئة الفتنة يجر إلى إثارة الفتنة التي هي تكون أقوى من الأولى ، مع أن هجوم العوام وعدم تعيين أحد منهم بمباشرة قتل الإمام ليس بموجب لإمام آخر أن يقتلهم قتلا عاما ، ولا من يتهم بقتله من غير حجة أو بينة شرعية ، لا سيما وقد رجعوا إلى الحق ودخلوا في بيعة الخليفة ، ومن المعلوم أن أهل البغي إذا رجعوا عن بغيهم ، أو شردوا عن قتالهم ، فليس لأحد أن يتعرض لهم ، هذا ولما كان - صلى الله عليه وسلم - ذكر الفتن وحذر عن الدخول فيها ، ورغب البعد عنها ، ورهب عن القرب إليها ، وأطلقها نظرا إلى فساد غالبها ، ولم يبين هذه الفتنة بخصوصها مفصلة وإن وقعت مجملة تحير فيها بعض الصحابة ، وظنوا أن الأسلم فيها بالخصوص أيضا ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - فيها بالعموم ، لكن لما تبين لهم في الآخر حقية على - كرم الله وجهه - وخطأ معاوية ، ندموا على ما فعلوا من العزلة ، وتحسروا على ما فاتهم من مثوبة الجلوة ، ولله حكمة في ذلك كله ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، فلا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم ، والله تعالى أعلم . ( رواه الترمذي ، وابن ماجه ) . قال ميرك : رواه أبو داود أيضا كلهم مرفوعا . وقال البخاري : الأصح وقفه على عبد الله بن عمرو بن العاص . أقول : لكن هذا الموقوف في حكم المرفوع ; فلأن قوله : " قتلاها في النار " لا يتصور أن يصدر من رأي أحد .




الخدمات العلمية