الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5403 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : كنا قعودا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الفتن ، فأكثر في ذكرها ، حتى ذكر فتنة الأحلاس ، فقال قائل : وما فتنة الأحلاس ؟ قال : " هي هرب ، وحرب ، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي ، يزعم أنه مني وليس مني ، إنما أوليائي المتقون ، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ، فإذا قيل : انقضت تمادت ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، حتى يصير الناس إلى فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ، فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال من يومه أو من غده " . رواه أبو داود .

التالي السابق


5403 - ( وعن عبد الله بن عمر ، قال : كنا قعودا ) أي : قاعدين ( عند رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فذكر الفتن ) أي : الواقعة في آخر الزمان ( فأكثر ) أي : البيان ( في ذكرهما ، حتى ذكر فتنة الأحلاس ) سبق معناه اللغوي ، ( فقال قائل : وما فتنة الأحلاس ؟ قال : " هي هرب " ) : بفتحتين أي : يفر بعضهم من بعض لما بينهم من العداوة والمحاربة ، ( " وحرب " ) بفتحتين أي : أخذ مال وأهل لغير استحقاق ( " ثم فتنة السراء " ) بالرفع عطف على هرب بحسب المعنى ، فكأنه قال : وفتنة الأحلاس حرب وهرب وفتنة السراء ، وفى نسخة بالنصب عطفا على فتنة الأحلاس ، والمراد بالسراء النعماء التي تسر الناس من الصحة والرخاء ، والعافية [ ص: 3399 ] من البلاء والوباء ، وأضيفت إلى السراء لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي ; بسبب كثرة التنعم ، أو لأنها تسر العدو . وقال التوربشتي - رحمه الله : يحتمل أن يكون سبب وقوع الناس في تلك الفتنة وابتلائهم بها أثر النعمة ، فأضيفت إلى السراء ، يعني يكون التركيب من قبيل إضافة الشيء إلى سببه ، ويحتمل أن يكون صفة للفتنة فأضيفت إليها إضافة مسجد الجامع ، ويراد منها سعتها لكثرة الشرور والمفاسد ، ومن ذلك قولهم قفاه سراء إذا كانت وسيعة ، يعني يكون التقدير : فتنة الحادثة السراء ، أي : الواسعة التي تعم الكافة من الخاصة والعامة ، وقوله : ( " دخنها " ) : بفتحتين أي إثارتها وهيجانها ، وشبهها بالدخان الذي يرتفع ، كما شبه الحرب بالنار ، وإنما قال : ( " من تحت قدمي رجل من أهل بيتي " ) تنبيها على أنه هو الذي يسعى في إثارتها ، أو إلى أنه يملك أمرها ، ( يزعم أنه مني ) أي : في الفعل وإن كان مني في النسب ، والحاصل أن تلك الفتنة بسببه ، وأنه باعث على إقامتها ( " وليس مني " ) أي : من أخلائي أو من أهلي في الفعل ; لأن لو كان من أهلي لم يهيج الفتنة ، ونظيره قوله تعالى : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ، أو ليس من أوليائي في الحقيقة ، ويؤيده قوله : ( " إنما أوليائي المتقون " ) ، وهذا أبلغ من حديث " آل محمد كل تقي " ، ( ثم يصطلح الناس على رجل ) أي : يجتمعون على بيعة رجل ( كورك ) : بفتح وكسر ( على ضلع ) : بكسر ففتح ويسكن واحد الضلوع أو الأضلاع ، وتسكين اللام فيه جائز على ما في الصحاح ، وهذا مثل ، والمراد أن لا يكون على ثبات ; لأن الورك لثقله لا يثبت على الضلع لدقته ، والمعنى أنه يكون غير أهل الولاية لقلة علمه وخفة رأيه وحلمه . وفي النهاية : أي يصطلحون على رجل لا نظام له ولا استقامة لأمره ; لأن الورك لا يستقيم على الضلع ، ولا يتركب عليه ; لاختلاف ما بينهما وبعده ، وفي شرح السنة : معناه أن الأمر لا يثبت ولا يستقيم له ; وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله ، وحاصله أنه لا يستعد ولا يستبد ; لذلك فلا يقع عنه الأمر موقعه ، كما أن الورك على ضلع يقع غير موقعه .

قال : وإنما يقال في باب الملاءمة والموافقة إذا وصفوا به هو ككف في ساعد وساعد في ذراع ونحو ذلك ، يريد أن هذا الرجل غير لائق للملك ولا مستقل به .

( ثم فتنة الدهيماء ) : بالرفع وينصب على ما سبق ، وهي بضم ففتح ، والدهماء السوداء ، والتصغير للذم ، أي : الفتنة العظماء والطامة العمياء ، وفي النهاية : هي تصغير الدهماء يريد الفتنة المظلمة والتصغير فيها للتعظيم ، وقيل : المراد بالدهيماء الداهية ، ومن أسماء الداهية الدهيم ، زعموا أن الدهيم اسم ناقة غزا عليها سبعة إخوة متعاقبين ، فقتلوا عن آخرهم ، وحملوا عليها حتى رجعت بهم ، فصارت مثلا في كل داهية ، ( لا تدع ) أي : لا تترك تلك الفتنة ( أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة ) أي : أصابته بمحنة ومسته ببلية ، وأصل اللطم هو الضرب على الوجه ببطن الكف ، والمراد أن أثر تلك الفتنة يعم الناس ويصل لكل أحد من ضررها . قال الطيبي - رحمه الله : هو استعارة مكنية شبه الفتنة بإنسان ، ثم خيل لإصابتها الناس ، اللطم الذي هو من لوازم المشبه به وجعلها قرينة لها ، ( " فإذا قيل : انقضت " ) أي : فمهما توهموا أن تلك الفتنة انتهت ( " تمادت " ) بتخفيف الدال أي : بلغت المدى ، أي : الغاية من التمادي ، وفي نسخة بتشديد الدال من التمادد تفاعل من المد ، أي : استطالت واستمرت واستقرت ، ( " يصبح الرجل فيها مؤمنا " ) أي : لتحريمه دم أخيه وعرضه وماله ( ويمسي كافرا ) أي : لتحليله ما ذكر ، ويستمر ذلك ( " حتى يصير الناس إلى فسطاطين " ) : بضم الفاء وتكسر أي فرقتين ، وقيل : مدينتين ، وأصل الفسطاط [ ص: 3400 ] الخيمة ، فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال ( فسطاط إيمان ) : بالجر على أنه بدل ، وفي نسخة بالرفع ، وإعرابه مشهور ، أي : إيمان خالص ( " لا نفاق فيه " ) أي : لا في أصله ولا في فصله من اعتقاده وعمله ، ( " وفسطاط نفاق لا إيمان فيه " ) أي : أصلا أو كمالا ; لما فيه من أعمال المنافقين من الكذب والخيانة ونقض العهد ، وأمثال ذلك ، ( " فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال " ) أي : ظهوره ( " من يومه أو من غده " ) وهذا يؤيد أن المراد بالفسطاطين المدينتان ، فإن المهدي يكون في بيت المقدس فيحاصره الدجال ، فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ، فيذوب الملعون كالملح ينماع في الماء ، فيطعنه بحربة له فيقتله ، فيحصل الفرج العام والفرح التام ، كما قال سيد الأنام :

اشتدي أزمة تنفرجي

وقد قال تعالى : فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ، ولن يغلب عسر يسرين ، وهما هنا الاقتران بين القمرين وضياء أنوارهما في أمر الكونين .

قال الطيبي - رحمه الله : الفسطاط بالضم والكسر المدينة التي فيها يجتمع الناس ، وكل مدينة فسطاط ، وإضافة الفسطاط إلى الإيمان إما بجعل المؤمنين نفس الإيمان مبالغة ، وإما بجعل الفسطاط مستعارا للكتف والوقاية على المصرحة ، أي : هم في كتف الإيمان ووقايته . ( رواه أبو داود ) أي : وسكت عليه وأقره المنذري ، ورواه الحاكم وصححه ، وأقره الذهبي ، نقله ميرك عن تصحيح الجزري .




الخدمات العلمية