الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) هذه جملة مستأنفة بين الله تعالى فيها ما يقوله لهؤلاء يوم القيامة بعد بيان ما تقوله لهم ملائكة العذاب كما جزم ابن جرير ، لا معطوفة على ما قبلها من حكاية قول الملائكة ، كما حكاه الرازي أحد وجهين ، وزعم أنه أقوى ، غافلا عن قوله تعالى : ( خلقناكم ) ولا ينافي هذا الخطاب قوله تعالى : ( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) 2 : 174 لأن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم ورضا ، [ ص: 523 ] أو هو كناية عن الغضب والإعراض ، والمعنى : لقد جئتمونا متفرقين فردا بعد فرد أو وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان ، والأهل والإخوان ، والأنصار والأعوان ، مجردين من الخول والخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ، أكد تعالى الخبر بمجيئهم بعد ذكر وقوعه تذكيرا لهم بما كان من جحودهم إياه أو استبعادهم لوقوعه ، كما ذكرهم بمشابهة بعثهم وإعادتهم ببدء خلقهم ، وهو المثل الذي جاءهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من ربهم ( وتركتم ما خولناكم ) " أعطيناكم ، وأما التخويل إعطاء الخول كالعبيد والنعم ، ويعبر بالترك وراء الظهر عما فات الإنسان التصرف فيه والانتفاع به ، لفقده إياه أو بعده عنه ، وبالتقديم بين الأيدي عما ينتفع به في المستقبل ، فالمراد هنا أن ما كان شاغلا لهم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل والاهتداء بما جاءوا به لم ينفعهم ، كما كانوا يتوهمون أن الله فضلهم به على المؤمنين ، وأنهم يمكنهم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة ، إن صح قول الرسل : إن بعد الحياة الدنيا حسابا وجزاء في حياة أخرى ، وإنما كان يمكنهم الانتفاع به لو آمنوا بالرسل وأنفقوا في سبيل الله . ولولا أن هذا هو المراد لاستغنى عن هذه الجملة بما قبلها . ومثل هذا يقال في قوله : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) فإن الأديان الوثنية قائمة على قاعدتي الفداء والشفاعة كما تقدم بيانه مرارا ، أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة وخيار البشر وغيرهم - أو تماثيلهم وقبورهم الذين زعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاء لله تعالى ، تدعونهم ليشفعوا لكم عند الله ويقربونكم إليه زلفى ، بتأثيرهم في إرادته ، وحملهم إياه على ما لم تتعلق في الأزل به ، وقد تقدم شرح هذه العقيدة الوثنية والتفرقة بينها وبين أحاديث الشفاعة في تفسير هذه السورة وغيرها ( لقد تقطع بينكم ) البين الصلة أو المسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء ، فيضاف دائما إلى المثنى كقوله تعالى : ( فأصلحوا بين أخويكم ) 49 : 10 ( فأصلحوا بينهما بالعدل ) 49 : 9 أو الجمع لفظا أو معنى كقوله تعالى : ( أو إصلاح بين الناس ) 4 : 114 ولا يضاف إلى الاسم المفرد إلا إذا كرر نحو ( هذا فراق بيني وبينك ) 18 : 78 ( ومن بيننا وبينك حجاب ) 41 : 5 ويستعمل في الغالب ظرفا غير متمكن وفي القليل اسما ، وقد قرأه هنا عاصم وحفص عنه والكسائي بفتح النون ، أي تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والخلة ، وقدر بعضهم تقطع الوصل [ ص: 524 ] بينكم ، وقرأه الجمهور بالرفع على الفاعلية قالوا : أي تقطع وصلكم أو تواصلكم ( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) أي وغاب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، وتقريب الأولياء ، وأوهام الفداء ، إذ علمتم بطلان غروركم به واعتمادكم عليه ، أو ضل عنكم الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ، ففي الكلام نشر على ترتيب اللف ، فإن تقطع البين راجع إلى ترك ما خولوا ، وفقد الشفاعة أو الشفعاء راجع إلى ما بعده . وجملة القول أن آمالهم خابت في كل ما كانوا يزعمون ويتوهمون ، وقد سبق لهذا نظير في الآيات ( 20 - 24 ) من هذه السورة فراجع تفسيرها في هذا الجزء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية