الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب وجوب الطهارة للصلاة

                                                                                                                224 حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو كامل الجحدري واللفظ لسعيد قالوا حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد قال دخل عبد الله بن عمر على ابن عامر يعوده وهو مريض فقال ألا تدعو الله لي يا ابن عمر قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وكنت على البصرة حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة ح قال أبو بكر ووكيع عن إسرائيل كلهم عن سماك بن حرب بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قال مسلم - رحمه الله - : ( حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حبان بن هلال حدثنا أبان حدثنا يحيى أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري ) هذا الإسناد مما تكلم فيه الدارقطني وغيره فقالوا : سقط فيه رجل بين أبي سلام وأبي مالك ، والساقط عبد الرحمن بن غنم ، قالوا : والدليل على سقوطه : أن معاوية بن سلام رواه عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري ، وهكذا أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، ويمكن أن يجاب لمسلم عن [ ص: 456 ] هذا بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك فيكون أبو سلام سمعه من أبي مالك ، وسمعه أيضا من عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك ; فرواه مرة عنه ومرة عن عبد الرحمن ، وكيف كان فالمتن صحيح لا مطعن فيه . والله أعلم .

                                                                                                                وأما ( حبان بن هلال ) فبفتح الحاء وبالباء الموحدة . وأما ( أبان ) فقد تقدم ذكره في أول الكتاب ، وأنه يجوز صرفه وترك صرفه ، وأن المختار صرفه . وأما أبو سلام فاسمه ( ممطور ) الأعرج الحبشي الدمشقي ، نسب إلى حي من حمير من اليمن لا إلى الحبشة . وأما ( أبو مالك ) فاختلف في اسمه فقيل : الحارث ، وقيل : عبيد ، وقيل : كعب بن عاصم ، وقيل : عمرو ، وهو معدود في الشاميين .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام ، قد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام ، فأما ( الطهور ) فالمراد به الفعل فهو مضموم الطاء على المختار وقول الأكثرين ، ويجوز فتحها كما تقدم ، وأصل الشطر النصف ، واختلف في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : الطهور شطر الإيمان ، فقيل : معناه أن الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان ، وقيل : معناه أن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا ، وكذلك الوضوء ; لأن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر ، وقيل المراد بالإيمان هنا الصلاة كما قال الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم والطهارة شرط في صحة الصلاة فصارت كالشطر ، وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفا حقيقيا ، وهذا القول أقرب الأقوال ، ويحتمل أن يكون معناه : أن الإيمان تصديق بالقلب وانقياد بالظاهر ، وهما شطران للإيمان ، والطهارة متضمنة الصلاة ، فهي انقياد في الظاهر . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والحمد لله تملأ الميزان ) فمعناه : عظم أجرها ، وأنه يملأ الميزان ، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ) ، فضبطناه بالتاء المثناة من فوق في تملآن وتملأ ، وهو صحيح ، فالأول ضمير مؤنثتين غائبتين ، والثاني ضمير هذه الجملة من الكلام ، وقال صاحب التحرير : يجوز ( تملآن ) بالتأنيث والتذكير جميعا ، فالتأنيث على ما ذكرناه ، والتذكير على إرادة النوعين من الكلام أو الذكرين ، قال : وأما تملأ فمذكر على إرادة الذكر ، [ ص: 457 ] وأما معناه فيحتمل أن يقال : لو قدر ثوابهما جسما لملأ ما بين السماوات والأرض ، وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله : ( سبحان الله ) ، والتفويض والافتقار إلى الله تعالى بقوله : ( الحمد لله ) والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والصلاة نور ) ، فمعناه : أنها تمنع من المعاصي ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتهدي إلى الصواب ، كما أن النور يستضاء به . وقيل : معناه أنه يكون أجرها نورا لصاحبها يوم القيامة ، وقيل : لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف ، وانشراح القلب ، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها ، وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه ، وقد قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وقيل : معناه أنها تكون نورا ظاهرا على وجهه يوم القيامة ، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء بخلاف من لم يصل . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والصدقة برهان ) ، فقال صاحب التحرير : معناه : يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين ، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال ، فيقول : تصدقت به ، قال : ويجوز أن يوسم المتصدق بسيماء يعرف بها فيكون برهانا له على حاله ولا يسأل عن مصرف ماله . وقال غير صاحب التحرير : معناه الصدقة حجة على إيمان فاعلها ، فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والصبر ضياء ) ، فمعناه الصبر المحبوب في الشرع ، وهو الصبر على طاعة الله تعالى والصبر عن معصيته ، والصبر أيضا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا ، والمراد أن الصبر محمود ، ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب ، قال إبراهيم الخواص : الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة . وقال ابن عطاء : الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب . وقال الأستاذ أبو علي الدقاق - رحمه الله - تعالى - : حقيقة الصبر أن لا يعترض على المقدور ، فأما إظهار البلاء لا على وجه الشكوى فلا ينافي الصبر ، قال الله تعالى في أيوب عليه السلام : إنا وجدناه صابرا نعم العبد مع أنه قال : إني مسني الضر والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والقرآن حجة لك أو عليك ) ، فمعناه ظاهر أي تنتفع به إن تلوته وعملت به ، وإلا فهو حجة عليك .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) ، فمعناه كل إنسان يسعى بنفسه فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب ، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها . والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 458 ] باب وجوب الطهارة للصلاة

                                                                                                                في إسناده ( أبو كامل الجحدري ) بفتح الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الدال ، واسمه : الفضيل بن حسين ، منسوب إلى جد له ، اسمه جحدر وتقدم بيانه مرات . وفيه ( أبو عوانة ) واسمه : الوضاح بن عبد الله :

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول ) هذا الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة ، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة ، قال القاضي عياض : واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة ، فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء في أول الإسلام كان سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم ، قال الجمهور : بل كان قبل ذلك فرضا ، قال : واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة ؟ فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة الآية ، وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ ، وقيل : الأمر به لكل صلاة على الندب ، وقيل : بل لم يشرع إلا لمن أحدث . ولكن تجديده لكل صلاة مستحب ، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ، ولم يبق بينهم فيه خلاف ، ومعنى الآية عندهم إذا كنتم محدثين . هذا كلام القاضي - رحمه الله - تعالى . واختلف أصحابنا في الموجب للوضوء على ثلاثة أوجه : أحدها أنه يجب بالحدث وجوبا موسعا ، والثاني : لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة ، والثالث : يجب بالأمرين وهو الراجح عند أصحابنا ، وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة إلا ما حكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري من قولهما تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة ، وهذا مذهب باطل وأجمع العلماء على خلافه ، ولو صلى محدثا متعمدا بلا عذر أثم ولا يكفر عندنا وعند الجماهير ، وحكي عن أبي حنيفة - رحمه الله - تعالى أنه يكفر لتلاعبه . ودليلنا أن الكفر للاعتقاد وهذا المصلي اعتقاده صحيح ، وهذا كله إذا لم يكن للمصلي محدثا عذر . أما المعذور كمن لم يجد ماء ولا ترابا ففيه أربعة أقوال للشافعي - رحمه الله - تعالى وهي مذاهب للعلماء قال بكل واحد منها قائلون أصحها عند أصحابنا : يجب عليه أن يصلي على حاله ، ويجب أن يعيد إذا تمكن من الطهارة ، والثاني : يحرم عليه أن يصلي ويجب القضاء ، والثالث يستحب أن يصلي ويجب القضاء ، والرابع : يجب أن يصلي ولا يجب القضاء ، وهذا القول اختيار المزني وهو أقوى الأقوال [ ص: 459 ] دليلا ، فأما وجوب الصلاة فلقوله - صلى الله عليه وسلم - : وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم ، وأما الإعادة فإنما تجب بأمر مجدد والأصل عدمه . وكذا يقول المزني : كل صلاة أمر بفعلها في الوقت على نوع من الخلل لا يجب قضاؤها . والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية