الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        13149 - قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يخرص من الثمار إلا النخيل والأعناب . فإن ذلك يخرص حين يبدو صلاحه ، ويحل بيعه . وذلك أن ثمر النخيل والأعناب يؤكل رطبا وعنبا . فيخرص على أهله للتوسعة على الناس . ولئلا يكون على أحد في ذلك ضيق . فيخرص ذلك عليهم ثم يخلى بينهم وبينه ، يأكلونه كيف شاءوا ثم يؤدون منه الزكاة على ما خرص عليهم .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        13150 - وقال الشافعي في ذلك كقول مالك سواء في الكتاب المصري ، وقال : بالقرآن يخرص الكرم والنخل فالحب والزيتون قياسا على النخل والعنب ، واتباعا ؛ لأنا وجدنا عليه الناس .

                                                                                                                        13151 - قلنا : ولم يختلف مالك والشافعي وغيرهما في أن الحبوب كلها لا يخرص شيء منها ؛ وإنما اختلفا في الزيتون ، فمالك يرى الزكاة فيه من غير خرص ( على ما يأتي في الباب بعد هذا إن شاء الله ) .

                                                                                                                        13152 - وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : الخرص باطل ليس بشيء ، وعلى رب المال أن يؤدى عشره زاد أو نقص .

                                                                                                                        [ ص: 245 ] 3153 - قال أبو عمر : جمهور العلماء على أن الخرص للزكاة في النخل والعنب معمول به سنة معمولة ، ولم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 246 ] يرسل عبد الله بن رواحة وغيره إلى خيبر وغيرها يخرص الثمار ، والقول بأن ذلك منسوخ بالمداينة شذوذ .

                                                                                                                        13154 - وكذلك شذ داود ، فقال : لا يخرص إلا النخل خاصة ، ودفع حديث سعيد بن المسيب ، عن عتاب بن أسيد ، وقال إنه منقطع ، لم يسمع منه ، ولا يأتي خرص العنب إلا في حديث عتاب المذكور .

                                                                                                                        13155 - وقال الليث : لا يخرص إلا التمر والعنب ، وأهله أمناء على [ ص: 247 ] ما رفعوا إلا أن يتهموا فينصب السلطان أمينا .

                                                                                                                        13156 - وقال محمد بن الحسن فيما روى عنه أصحاب الإملاء : يخرص الرطب تمرا أو العنب زبيبا ، فإذا بلغ خمسة أوسق أخذ منهم العشر أو نصف العشر ، وإن لم يبلغ خمسة أوسق في الخرص لم يؤخذ منه شيء .

                                                                                                                        13157 - فأما قول مالك : " أما الحبوب لا تخرص : ، فهو ما لا خلاف فيه بين العلماء ، وإنما اختلفوا فيما وصفنا .

                                                                                                                        13158 - وأما قوله في الجائحة أن الناس أمناء فيما يدعون منها فهذا لا خلاف فيه إلا أن يتبين كذب من يدعي ذلك ، فإن لم يبن كذبه وأوهم أحلف .

                                                                                                                        13159 - وأما ما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ والقطاف فقد اختلف العلماء : هل يحسب ذلك عليه أم لا ؟ فقال مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وزفر : يحسب عليه .

                                                                                                                        13160 - وقال أبو يوسف ومحمد : إذا أكل صاحب الأرض وأطعم جاره وصديقه أخذ منه عشر ما بقي من الخمسة الأوسق التي فيها الزكاة ، ولا يؤخذ مما أكل وأطعم ولو أكل الخمسة الأوسق لم يجب عليه عشر ، فإن بقي منها [ ص: 248 ] قليل أو كثير فعليه نصف ما بقي أو نصف العشر .

                                                                                                                        13161 - وقال الليث في زكاة الحبوب : يبدأ بها قبل النفقة وما أكل كذلك هو وأهله فلا يحسب عليه بمنزلة الرطب الذي ترك لأهل الحائط يأكلونه ولا يخرص عليهم .

                                                                                                                        13162 - وقال الشافعي : يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا لا يخرصه عليهم ، وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه .

                                                                                                                        13163 - قال أبو عمر : احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ( الأنعام : 141 ) واستدلوا على أنه لا يحسب المأكول قبل الحصاد بهذه الآية .

                                                                                                                        13164 - واحتجوا بقوله عليه السلام : " إذا خرصتم فدعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " .

                                                                                                                        13165 - قال أبو عمر : روى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن ، قال : سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول : جاء سهل بن أبي حثمة إلى مسجدنا ، فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرصتم . فخذوا ، ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث ، فدعوا الربع " .

                                                                                                                        [ ص: 249 ] 13166 - ومن حديث ابن لهيعة وغيره ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خففوا في الخرص ، فإن في المال العرية ، والواطئة ، والأكلة ، والوصية ، والعامل ، والنوائب .

                                                                                                                        13167 - وروى الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، قال : كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن : اخرصوا ، وارفعوا عنهم قدر ما يأكلون .

                                                                                                                        13168 - ولم يعرف مالك قدر هذه الآثار .

                                                                                                                        13169 - ومن الحجة له ما روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا ، فجاء رجل ، فقال : يا رسول الله ! إن أبا حثمة قد زاد علي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه " ؟ فقال : يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله ، وما تطعمه المساكين ، وما تسقط الريح . فقال : قد زادك ابن عمك وأنصفك " .

                                                                                                                        [ ص: 250 ] 13170 - فاحتج الطحاوي لأبي حنيفة ومالك ، فإن قال في هذا الحديث : إنما ترك الذي ترك للعرايا والعرايا صدقة ، فمن هنا لم تجب فيها صدقة . وهذا تعنيد من القول وظاهر الحديث بخلافه على أن مالكا يرى الصدقة في العرية إذا أعراها صاحبها قبل أن يطيب أول تمرها على المعري ، فإن عراها بعد فهي على المعرى إذا بلغت خمسة أوسق .

                                                                                                                        13171 - وأما ما احتج به الشافعي من قوله عز وجل : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ( الأنعام : 141 ) ، واستدل بأن المأكول أخضر لا يراعى في الزكاة بهذه الآية فقد يحتمل عند مخالفه أن يكون معنى الآية آتوا حق جميع المأكول والباقي . والظاهر مع الشافعي والآثار .

                                                                                                                        13172 - وأما الخبر في الخرص لإحصاء الزكاة والتوسعة على الناس في أكل ما يحتاجون إليه من رطبهم وعنبهم فذكر :

                                                                                                                        13172 - عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت ( وذكرت شأن خيبر ) : " فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص النخل حين يطيب أول التمر قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير اليهود بأن يأخذوها بذاك الخرص أو يدفعونها إليهم بذلك ؛ وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفترق .

                                                                                                                        [ ص: 251 ] 13174 - قال أبو عمر : يقال إن قوله في هذا الحديث : وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى . . " إلى آخره ، من قول ابن شهاب ، وقيل : من قول عروة ، وقيل : من قول عائشة .

                                                                                                                        13175 - ولا خلاف في ذلك بين العلماء القائلين بالخرص لإحصاء الزكاة . وكذلك لا خلاف بينهم أن الخرص على هذا الحديث في أول ما يطيب التمر ويزهى بحمرة أو صفرة وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وطاب أكله .






                                                                                                                        الخدمات العلمية