الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5450 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا اتخذ الفيء دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وتعلم لغير الدين ، وأطاع الرجل امرأته ، وعق أمه ، وأدنى صديقه ، وأقصى أباه ، وظهرت الأصوات في المساجد ، وساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وظهرت القينات والمعازف ، وشربت الخمر ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ; فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع " . رواه الترمذي .

التالي السابق


5450 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا اتخذ " ) : بصيغة المجهول أي : إذا أخذ ( " الفيء " ) أي : الغنيمة ( " دولا " ) : بكسر الدال وفتح الواو ويضم أوله جمع دولة بالضم والفتح ، أي : غلبة في المداولة والمناولة ، ففي القاموس : الدولة انقلاب الزمان ، والعقبة في المآل ويضم ، أو الضم فيه والفتح في الحرب ، أو هما سواء ، أو الضم في الآخرة والفتح في الدنيا ، الجمع : دول مثلثة . وفي شرح ابن الملك قال الأزهري : الدولة بالضم اسم لما يتناول من المال يعني الفيء ، وبالفتح الانتقال من حال البؤس والضر إلى حال السرور .

[ ص: 3436 ] قال التوربشتي - رحمه الله : أي إذا كان الأغنياء وأصحاب المناصب يستأثرون بحقوق الفقراء ، أو يكون المراد منه أن أموال الفيء تؤخذ غلبة وأثرة صنيع أهل الجاهلية وذوي العدوان ، ( " والأمانة مغنما " ) ، أي : بأن يذهب الناس بودائع بعضهم وأماناتهم ، فيتخذونها كالمغانم يغنمونها ، ( " والزكاة مغرما " ) أي : بأن يشق عليهم أداؤها حتى تعد غرامة ، ( " وتعلم " ) : بصيغة المجهول من باب التفعل ( " لغير الدين " ) ، قال الطيبي - رحمه الله : هو بالألف واللام ، كذا في جامع الترمذي ، وجامع الأصول ، وفي نسخة المصابيح بغير اللام ، والأولى أولى ، أي : رواية ودراية ، أي : يتعلمون العلم لطلب الجاه والمال لا للدين ونشر الأحكام بين المسلمين ; لإظهار دين الله ، ( " وأطاع الرجل امرأته " ) أي : فيما تأمره وتهواه مخالفا لأمر الله وهداه ، ( " وعق أمه " ) أي : خالفها فيما تأمره وتنهاه ، وفي القرينتين إشعار بانقلاب الدهر ; لانعكاس الأمر ، كما في قوله : ( " وأدنى صديقه ، وأقصى أباه " ) ; حيث قرب صديقه الأجنبي إليه ، وبعد أقرب الأقربين منه ، مع أنه أشفق الأشفقين عليه ، هذا وقال ابن الملك : خص عقوق الأم بالذكر ، وإن كان عقوق كل من الأبوين معدودا من الكبائر ; لتأكد حقها ، أو لكون قوله : وأقصى أباه بمنزلة وعق أباه ، فيكون عقوقهما مذكورا . أقول : ففيه تفنن وتسجيع ، مع زيادة المبالغة في قوله : أقصى ، على قوله : عق ، على أنه يفهم عقوق الأب من عقوق الأم بالأولى .

وقال الطيبي - رحمه الله : قوله : وأدنى صديقه وأقصى أباه ، كلاهما قرينة لقوله : وأطاع الرجل امرأته وعق أمه ، لكن المذموم في الأولى الجمع بينهما ; لأن إدناء الصديق محمود ، بخلاف الثانية ، فإن الإفراد والجمع بينهما مذمومان . وأقول : فيه نظر ; لأن إطاعة المرأة والأم في المباح مندوبتان ، وفي المعصية منهيتان ، فالغرابة بينهما إنما هي في انعكاس القضية وانقلاب البلية ، وكذا في القرينتين الأوليين ; إذ يتصور إدناء الصديق الصالح وإبعاد الأب الصالح ، ويؤيد ما حررنا قوله : فرجح جانب الزوجة لأنها محل الشهوة على جانب الأم ، فإنها مرضاة الرب ، وخص الأم بالذكر لزيادة حقها ، وتأكد مشقتها في تربيته ، فعقوقها أقبح من عقوق الأب ، وأدنى صديقه أي : قربه إلى نفسه للمؤانسة والمجالسة ، وأقصى أباه أبعده ولم يستصحبه ولم يستأنس به . ( وظهرت الأصوات ) أي : رفعها ( في المساجد ) ، وهذا مما كثر في هذا الزمان ، وقد نص بعض علمائنا بأن رفع الصوت في المسجد ولو للذكر حرام ، ( وساد القبيلة ) : وفي معناه البلد والمحلة ( فاسقهم ) ، وظالمهم بالأولى ، وقد كثر هذا أيضا ، والظاهر أن الكثرة هي العلامة ، وإلا فلم يكن يخلو زمان عن مثل هذه الأشياء ، وقد قال تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ( وكان زعيم القوم ) أي : المتكفل بأمرهم ( أرذلهم ) أي : أبخلهم ، أو أكثرهم رذالة في النسب والحسب .

قال السيوطي : زعيم القوم رأسهم . وفي القاموس : الزعيم الكفيل ، وسيد القوم رأسهم والمتكلم عنهم ، ثم اعلم أن النسخ جميعها على رفع " زعيم " ونصب " أرذلهم " ، وكان الظاهر أن يعكس ، اللهم إلا أن يراد بالزعيم الكريم ، وبالأرذل الأحمق والأخمل ، وفي المال والجاه أقل ، ( " وأكرم الرجل " ) أي : عظم ( " مخافة شره " ) أي : لا لسبب غيره من نحو رجاء خيره ، ( " وظهرت القينات " ) : بفتح القاف وسكون التحتية أي : الإماء المغنيات ، ( " والمعازف " ) ، بفتح الميم وكسر الزاي أي : وظهرت آلات اللهو ، ( " وشربت " ) : بصيغة المجهول ( " الخمور " ) أي : أنواع الخمر ، والمراد أنها تشرب شربا ظاهرا ، ( " ولعن آخر هذه الأمة أولها " ) : فيه إشارة إلى أن هذه العلامة من خصوصيات هذه الأمة ، وأنها لم تقع في الأمم السابقة ، وهي المناسبة أن تكون من أشراط الساعة ، ويؤيده أنه لو قيل لليهود والنصارى : من أفضل أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى وعيسى - عليهما الصلاة .

[ ص: 3437 ] قال الطيبي رحمه الله : أي طعن الخلف في السلف ، وذكروهم بالسوء ، ولم يقتدوا بهم في الأعمال الصالحة ، فكأنه لعنهم . أقول : إذا كانت الحقيقة متحققة فما المحوج إلى العدول عنها إلى المعنى المجازي ، وقد كثرت كثرة لا تخفى في العالم ، مع أن الله تعالى قال في حق الأولين : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وقال : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة والكتاب والسنة مشحونان بمناقبهم وفضائلهم ، وهم الذين نصروا نبيهم في اجتهاده ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، فتحوا بلاد الإسلام ، وحفظوا الأحكام وسائر العلوم من سيد الأنام ، وانتفعوا بهم علماء الأعلام ومشايخ الكرام ، وقد علمنا الله في كتابه أن نقول في حقهم : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، وقد ظهرت طائفة لاعنة ملعونة ، إما كافرة أو مجنونة ، حيث لم يكتفوا باللعن والطعن في حقهم ، بل نسبوهم إلى الكفر بمجرد أوهامهم الفاسدة وأفهامهم الكاسدة من أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله تعالى عنهم - أخذوا الخلافة وهي حق علي بغير حق ، والحال أن هذا باطل بالإجماع سلفا وخلفا ، ولا اعتبار بإنكار المنكرين ، وأي دليل لهم من الكتاب والسنة يكون نصا على خلافة علي ، ثم من خالفه من بعض الصحابة في أيام خلافته أيضا بناء على اختلاف اجتهاد ، فليس يستحق اللعن ، غايته أنه كان مخطئا ، ولو فرضنا أنه كان مسيئا ، فلعله مات تائبا ، أو باقيا تحت المشيئة مع غالب رجاء المغفرة والشفاعة ببركة الخدمة المتقدمة .

وقد روى ابن عساكر عن علي - كرم الله تعالى وجهه - مرفوعا : يكون لأصحابي زلة ، يغفرها الله لهم ; لسابقتهم معي . فنحن مع كثرة ذنوبنا من الصغائر والكبائر ، إذا كنا راجين رحمة ربنا وشفاعة نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - فكيف بأكابر هذه الأمة ، وبأنصار هذه الملة ، ومن العجيب أن طائفة الرافضة المرفوضة ، الباغضة المبغوضة ، أفسق الخلق وأظلمهم ، وأحمق العالمين وأجهلهم ، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، هذا وقد قال - صلى الله تعالى عليه وسلم : " لا تذكروا موتاكم إلا بخير " . وقال : " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " .

وقد أخرج ابن عساكر عن جابر مرفوعا : " حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر ، وحب الأنصار من الإيمان وبغضهم كفر ، وحب العرب من الإيمان وبغضهم كفر ، ومن سب أصحابي فعليه لعنة الله ، ومن حفظني فيهم فأنا أحفظه يوم القيامة " . ( " فارتقبوا " ) : جواب إذا ، والمعنى : فانتظروا ( " عند ذلك " ) أي : عند وجود ما ذكر ( " ريحا حمراء " ) أي : شديدة في الهواء ( " وزلزلة " ) أي : حركة عظيمة للأرض ( " وخسفا " ) أي : ذهابا في الأرض وغيبوبة فيها ( " ومسخا " ) : بتغيير الصور على طبق اختلاف تغير السير ( " وقذفا " ) أي : رمي حجارة من السماء ( " وآيات " ) أي : علامات أخر لدنو القيامة وقرب الساعة ، ( " تتابع " ) : بحذف إحدى التاءين أي يتبع بعضها بعضا ( " كنظام " ) : بكسر النون أي : عقد من نحو جوهر وخرز ( " قطع سلكه " ) : بكسر السين أي : انقطع خيطه ( " فتتابع " ) أي : ما فيه من الخرز ، وهو فعل ماض بخلاف الماضي ، فإنه حال أو استقبال . ( رواه الترمذي ) أي : وقال : غريب . وروى أحمد ، والحاكم عن ابن عمر مرفوعا : " الآيات خرزات منظومات في سلك ، فانقطع السلك فيتبع بعضها بعضا " .




الخدمات العلمية