الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) : قد تقدم الكلام في لو وأقسامها ، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، ويأتي الكلام على جوابها إن شاء الله . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) تمنيا لإيمانهم ، على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له ، كأنه قيل : وليتهم آمنوا ، ثم ابتدئ : ( لمثوبة من عند الله خير ) ، انتهى . فعلى هذا لا يكون للجواب لازم ، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء ، كما يجاب ليت . إلا أن الزمخشري دس في كلامه هذا ، ويحرجه مذهبه الاعتزالي ، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله ، فيكون المعنى : إن الله أراد إيمانهم ، فلم يقع مراده ، وهذا هو عين مذهب الاعتزال ، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية :

[ ص: 335 ]

قالوا يريد ولا يكون مراده عدلوا ولكن عن طريق المعرفة



وأنهم آمنوا ، يتقدر بمصدر كأنه قيل : ولو إيمانهم ، وهو مرفوع . فقال سيبويه : هو مرفوع بالابتداء ، أي ولو إيمانهم ثابت . وقال المبرد : هو مرفوع على الفاعلية ، أي ولو ثبت إيمانهم . ففي كل من المذهبين حذف للمسند ، وإبقاء المسند إليه . والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو ، والضمير في أنهم لليهود ، أو الذين يعلمون السحر ، قولان . والإيمان والتقوى : الإيمان التام ، والتقوى الجامعة لضروبها ، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به ، وتقوى الكفر والسحر ، قولان متقاربان .

( لمثوبة ) : اللام لام الابتداء ، لا الواقعة في جواب لو ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، أي لأثيبوا ، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي ، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم ، وترتبه عليهما ، هذا قول الأخفش ، أعني أن الجواب محذوف . وقيل : اللام هي الواقعة في جواب لو ، والجواب : هو قوله : ( لمثوبة ) ، أي الجملة الاسمية . والأول اختيار الراغب ، والثاني اختيار الزمخشري . قال : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في الجواب لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في : ( سلام عليكم ) لذلك ، انتهى كلامه . ومختاره غير مختار ؛ لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جوابا للو ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه . ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل ، وليس مثل سلام عليكم ، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب . ووجه من أجاز ذلك قوله : بأن " مثوبة " مصدر يقع للماضي والاستقبال ، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل من تأليفنا ، بأشبع من هذا . وقرأ الجمهور : لمثوبة بضم الثاء ، كالمشورة . وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة : بسكون الثاء ، كمشورة . ومعنى قوله : لمثوبة ، أي لثواب ، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان . وقيل : لمثوبة : لرجعة إلى الله خير .

( من عند الله ) : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة ، أي كائنة من عند الله . وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة . وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله ، تفخيم وتعظيم لها ، ولمناسبة الإيمان والتقوى . لذلك كان المعنى : أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه ، هو الذي ثوابكم منه على ذلك ، فهو المتكفل بذلك لكم . واكتفى بالتنكير في ذلك ، إذ المعنى لشيء من الثواب .

قليلك لا يقال له قليل

( خير ) خبر لقوله : لمثوبة ، وليس خير هنا أفعل تفضيل ، بل هي للتفضيل ، لا للأفضلية . فهي كقوله : ( أفمن يلقى في النار خير ) ( وخير عقبا ) .

فشركما لخيركما الفداء

( لو كانوا يعلمون ) : جواب لو محذوف : التقدير : لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيرا ، ويعني سبب المثوبة ، وهو الإيمان والتقوى . ولذلك قدره بعضهم لآمنوا ؛ لأن من كان ذا علم وبصيرة ، لم يخف عليه الحق ، فهو يسارع إلى اتباعه ، ولا الباطل ، فهو يبالغ في اجتنابه . ومفعول يعلمون محذوف اقتصارا ، فالمعنى : لو كانوا من ذوي العلم ، أو اختصارا ، فقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، وقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى . وقيل : العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو بعلمهم ، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم ، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم منتفيا .

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ما كان عليه اليهود من خبث السريرة ، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله ، ونصب المعاداة لهم ، حتى انتهى ذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم ، وهو من لا ينبغي أن يعادى ؛ لأنه السفير بين الله وبين خلقه ، وهو جبريل . أتى بالقرآن المصدق لكتابهم ، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به ، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته . ثم أعقب ذلك بأن من كان عدوا لله ، أي مخالفا لأمره وملائكته ورسله ، أي مبغضا لهم ، فالله عدوه ، أي معامله بما يناسب [ ص: 336 ] فعله القبيح . ثم التفت إلى رسوله بالخطاب ، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات ، وأنها لوضوحها ، لا يكفر بها إلا متمرد في فسقه . ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم ، فلا تبال بمن طريقته هذه ، وأنهم سلكوا هذه الطريقة معك ، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة ، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم ، بحيث صاروا لا ينظرون فيه ، ولا يلتفتون لما انطوى عليه من التبشير بك ، وإلزامهم اتباعك ، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب ، ولا سبق لهم بك علم منه . ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد سليمان . ثم نزه نبيه سليمان عن الكفر ، وأن الشياطين هم الذين كفروا . ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت ، وأنهما لا يعلمان أحدا حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاء واختبارا ، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر . ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهما هو تفريق بين المرء وزوجه . ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى ؛ لأنه تعالى هو الضار النافع . ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسه ومتعلمه . ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر ، وأن متعاطي ذلك لا نصيب له في الآخرة . ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم ، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران .

ثم ختم ذلك بما لو سلكوه ، وهو الإيمان والتقوى ، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك ، وأن جميع ما اجترموه من المآثم ، واكتسبوه من الجرائم ، يعفي على آثاره جر ذيل الإيمان ، ويبدل بالإساءة جميل الإحسان . ولما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وقوله : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وذكر نبذ العهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشياطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى . فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيب بعد مغيب ، متناسقة تناسق اللآلئ في عقودها ، متضحة اتضاح الدراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ، ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ، ولا مارس ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) صلى الله عليه ، وأوصل أزكى تحية إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية