الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5631 حدثني إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني قوله : ( حدثني إسحاق ) هو ابن شاهين الواسطي ، وخالد هو ابن عبد الله الطحان ، والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس ، وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده ، لكن تقدم في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية كلاهما عن الجريري ، وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه ، وبين في الشهادات تصريح الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ألا أنبئكم ) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان ألا أخبركم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بأكبر الكبائر ثلاثا ) أي قالها ثلاث مرات على عادته في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله : " ثلاثا " عدد الكبائر وهو بعيد ، ويؤيد الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين أكبر الكبائر الإشراك ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور ثلاثا وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر ، ومنها صغائر ، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني فقال : ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس ، وحكاه القاضي عياض عن المحققين ، واحتجوا بأن كل مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرة ا ه . ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال : انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء ، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا : المعاصي كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر ، قالوا : ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة ، ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله - تعالى - : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أن المراد الشرك . وقد قال الفراء : من قرأ " كبائر " فالمراد بها كبير ، وكبير الإثم هو الشرك ، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله - تعالى - : كذبت قوم نوح المرسلين ولم يرسل إليهم غير نوح ، قالوا : وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة ا ه . قال النووي : قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول ، وقال الغزالي في " البسيط " إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه . قلت : قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين أنه لا يخالف ما قاله الجمهور ، فقال في " الإرشاد " : المرضي عندنا أن كل ذنب يعصى الله به كبيرة ، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ولو كان في حق الملك لكان كبيرة ، والرب أعظم من عصي ، فكل ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم ; ولكن الذنوب وإن عظمت فهي متفاوتة في رتبها . وظن بعض الناس أن الخلاف لفظي فقال : التحقيق أن للكبيرة اعتبارين : [ ص: 424 ] فبالنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض فهي تختلف قطعا ، وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر ا ه . والتحقيق أن الخلاف معنوي ، وإنما جرى إليه الأخذ بظاهر الآية ، والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما تقدم ، والله أعلم . وقال القرطبي : ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله - عز وجل - عنه كبيرة لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فجعل في المنهيات صغائر وكبائر ، وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر ، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش ، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن ؟ قلت : ويؤيده ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم ، لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله : " نهى الله عنه " محمولا على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على مقيده جمعا بين كلاميه . وقال الطيبي : الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان ، فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء : الطاعة أو المعصية أو الثواب . فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا هو من الصغائر ، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة فهو من الكبائر . وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة ، وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة ، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية ا ه . وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها ، لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة ، كأنه وإن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد ، فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبيرة وأكبر ، والله أعلم . قال النووي : واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا ، فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا ، قلت : وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى ، ومن الشافعية الماوردي ولفظه : الكبيرة ما وجبت فيه الحدود ، أو توجه إليها الوعيد . والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به ، إلا أن فيه انقطاعا . وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال : كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة . وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى ، منها قول إمام الحرمين : كل جريمة تؤذن بقلة اكثراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة . وقول الحليمي : كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه . وقال الرافعي : هي ما أوجب الحد . وقيل : ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة . هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل ; لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر ا ه كلامه . وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق ، وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة . وقال ابن عبد السلام في " القواعد " : لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض ، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها . قلت : وهو ضابط جيد . وقال القرطبي في " المفهم " : الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة ، وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس ، وزاد إيجاب الحد ، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر . فأما ما ورد النص الصريح بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع الموبقات في كتاب استتابة المرتدين ، ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص على كونها كبيرة أو موبقة . وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة [ ص: 425 ] لا ضابط لها ، فقال الواحدي : ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة ، كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        ( فصل ) قوله : " أكبر الكبائر " ليس على ظاهره من الحصر بل " من " فيه مقدرة ، فقد ثبت في أشياء أخر أنها من أكبر الكبائر ، منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده ، وحديث ابن مسعود " أي الذنب أعظم " فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب ، وحديث عبد الله بن أنيس الجهني مرفوعا قال : من أكبر الكبائر - فذكر منها - اليمين الغموس أخرجه الترمذي بسند حسن ، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد ، وحديث أبي هريرة رفعه إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن ، وحديث بريدة رفعه من أكبر الكبائر - فذكر منها - منع فضل الماء ومنع الفحل أخرجه البزار بسند ضعيف ، وحديث ابن عمر رفعه أكبر الكبائر سوء الظن بالله أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف ، ويقرب منه حديث أبي هريرة مرفوعا ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب اللباس ، وحديث عائشة أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أخرجه الشيخان ، وتقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه ولكنه من جملة العقوق ، قال ابن دقيق العيد : يستفاد من قوله : أكبر الكبائر انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر ، ويستنبط منه أن في الذنوب صغائر ، لكن فيه نظر ; لأن من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد ، فكأنه قيل : ألا أنبئكم بأكبر الذنوب ؟ قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الإشراك بالله ) قال ابن دقيق العيد : يحتمل أن يراد به مطلق الكفر ، ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ، لا سيما في بلاد العرب ، فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر . ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال الأول على هذا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وعقوق الوالدين ) تقدم الكلام عليه قريبا ، وذكر قبله في حديث أنس الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان متكئا فجلس ) في رواية بشر بن المفضل عن الجريري في الشهادات " وجلس وكان متكئا " وأما في الاستئذان فكالأول .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور ، ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يقولها حتى قلت لا يسكت ) هكذا في هذه الطريق ، ووقع في رواية بشر بن المفضل فقال ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " أي تمنيناه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك . وقال ابن دقيق العيد : اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، ومفسدتها أيسر وقوعا ; لأن الشرك ينبو عنه المسلم ، والعقوق ينبو عنه الطبع ، وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها ، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها . قال : وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة لأنا لو حملناه على الإطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك ، وإذا كان بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله - تعالى - : [ ص: 426 ] ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا . وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده ، قال : وقد نص الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة ، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به ، فالغيبة بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا ، والله أعلم . وقال غيره : يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ; لأن كل شهادة زور قول زور بغير عكس ، ويحتمل قول الزور على نوع خاص منه . قلت : والأولى ما قاله الشيخ ، ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده ، فدل على أن المراد شيء واحد . وقال القرطبي : شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال ، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله . وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث الكفر ، فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف ، وقيل : المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية