الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2496 3 - حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير إنما معه مثل هدبة الثوب ، فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ، وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي صلى الله عليه وسلم ؟

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : " وخالد بن سعيد إلى آخر الحديث " بيان ذلك أن خالدا أنكر على امرأة رفاعة ما تلفظت به عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وكان إنكار خالد عليها لاعتماده على سماع صوتها ، وهذا هو حاصل ما يقع من شهادة السمع لأن خالدا مثل المختفي عنها ، وعبد الله بن محمد المعروف بالمسندي ، وقد تكرر ذكره ، وسفيان هو ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في النكاح عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، والترمذي فيه ، عن ابن أبي عمر وإسحاق بن منصور ، والنسائي فيه ، وفي الطلاق عن إسحاق بن إبراهيم ، وابن ماجه في النكاح عن أبي بكر بن أبي شيبة ستتهم عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  قوله : " جاءت امرأة رفاعة " اسم المرأة تميمة بنت وهب ولم يقع في رواية البخاري ولا في رواية غيره من مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه تسمية امرأة رفاعة ، وقد سماها مالك في روايته تميمة بنت وهب ، وقال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) : ولا أعلم لها غير قصتها مع رفاعة بن سموءل حديث العسيلة من حديث مالك في ( الموطأ ) ، وكذا قال الطبراني في ( المعجم الكبير ) لها ذكر في قصة رفاعة ، ولا حديث لها ، وأما زوجها الأول فهو رفاعة بن سموءل القرظي من بني قريظة ، قال ابن عبد البر : ويقال : رفاعة بن رفاعة وهو أحد العشرة الذين فيهم نزلت ولقد وصلنا لهم القول الآية ، كما رواه الطبراني في ( معجمه ) وابن مردويه في ( تفسيره ) من حديث رفاعة بإسناد صحيح ، وأما زوجها الثاني فهو عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة بلا خلاف ابن باطا ، وقيل : باطيا من بني قريظة ، وأما ما ذكره ابن منده وأبو نعيم في كتابيهما ( معرفة الصحابة ) أنه من الأنصار من الأوس ونسباه إلى عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس فغير جيد ، وقيل : اسم المرأة سهيمة ، وقيل : الغميصاء ، وقيل : الرميصاء .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : لما أخرج الترمذي حديث امرأة رفاعة القرظي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال : وفي الباب عن ابن عمر وأنس والرميصاء أو الغميصاء فهذا يدل على أنهما غير المرأة التي تزوجت بابن الزبير . أما حديث ابن عمر فأخرجه النسائي وابن ماجه عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الرجل يكون له المرأة ثم يطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق العسيلة " وأما حديث أنس فرواه البيهقي من رواية محمد بن دينار ، عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن رجل تزوج امرأة . [ ص: 197 ] وكان قد طلقها زوجها أحسبه قال ثلاثا ، فلم يدخل بها الثاني ، فقال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : " لا تحل له حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته " وأما حديث الرميصاء أو الغميصاء فهو من حديث عائشة رواه الطبراني في ( الكبير ) بإسناد صحيح من رواية حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال للغميصاء : " لا حتى يذوق من عسيلتك وتذوقي من عسيلته .

                                                                                                                                                                                  وروى النسائي بسند جيد عن عبد الله بن عباس أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تشتكي زوجها وأنه لا يصل إليها فلم يلبث أن جاء زوجها فقال : يا رسول الله إنها كاذبة وهو يصل إليها ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول ، فقال : ليس ذلك لها حتى يذوق عسيلته .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) وفي الباب روى بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره نزلت في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت رفاعة - يعني ابن وهب - وهو ابن عمها فتزوجها ابن الزبير ثم طلقها فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي ، فقال : " لا حتى يكون مس " فلبثت ما شاء الله ثم أتت فقالت : يا رسول الله إن زوجي الذي كان تزوجني بعد زوجي كان مسني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر " فلبثت فلما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقالت : أرجع إلى زوجي الأول ، فإن الآخر قد مسني فقال لها أبو بكر : قد عهدت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين قال لك : فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه جاءت عمر رضي الله تعالى عنه فقال : إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فبت طلاقي " بالباء الموحدة المفتوحة وتشديد التاء المثناة من فوق أي : قطع قطعا كليا بتحصيل البينونة الكبرى ، وهكذا رواية الجمهور بت من الثلاثي المجرد ، وفي رواية النسائي : فأبت طلاقي من المزيد فيه وهي لغة ضعيفة ، وقال الجوهري حكاية عن الأصمعي : لا يقال يبت قال ، وقال الفراء هما لغتان ، ويقال : بته يبته بضم الباء في المضارع وحكي يبته بالكسر ، قال الجوهري : وهو شاذ ، وفي رواية أبي نعيم من حديث ابن عباس كانت أمية بنت الحارث عند عبد الرحمن بن الزبير فطلقها ثلاثا . الحديث . وهنا صرح بالثلاثة ، وفي رواية للبخاري على ما يأتي أن رفاعة طلقني آخر ثلاث تطليقات ، فبان منه أن الثلاث كانت متفرقات وأن المراد بقوله هنا : فبت طلاقي هي الطلقة الثالثة التي تحصل بها البينونة الكبرى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " مثل هدبة الثوب " بضم الهاء وسكون الدال وهي طرفه الذي لم ينسج شبهوها بهدب العين وهو شعر الجفن ، وفي رواية لمسلم " فأخذت هدبة من جلبابها ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد : ألا تزجر هذه ؟ " وفيه : " قالت عائشة : وعليها خمار أخضر فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها ، وفيه : " فجاء ابن الزبير ومعه ابنان له من غيرها ، فقالت : والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه ، وأخذت هدبة من ثوبها ، فقال : كذبت يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم ، ولكنها ناشز تريد رفاعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن كان ذلك لم تحلي له أو لم تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك ، وفي ( تهذيب ) الأزهري قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة سألت عن زوج تزوجته لترجع إلى زوجها الأول ، فلم ينتشر ذكره للإيلاج " لا حتى تذوقي عسيلته " ، وفي ( المصنف ) عن عامر قال : قال علي رضي الله تعالى عنه : " لا تحل له حتى يهزها هزيز البكر " ، وقال أنس رضي الله تعالى عنه : لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني ويدخل بها " ، وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : " حتى يسفسفها به " .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : كأنه من سفسفت الريح التراب إذا أثارته أو من السفسفة وهي انتخال الدقيق ونحوه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أن ترجعي " ويروى : " أن ترجعين " بالنون وهي على لغة من يرفع الفعل بعد أن . قوله : " عسيلته بضم العين وفتح السين المهملة تصغير عسلة ، وفي العسل لغتان التأنيث والتذكير ، فأنث العسيلة لذلك لأن المؤنث يرد إليها الهاء إذا صغر كقولك سميسة ويدية ، وقيل : إنما أنثه لأنه أراد النطفة ، وضعفه النووي لأن الإنزال لا يشترط وإنما هي كناية عن الجماع شبه لذته بلذة العسل وحلاوته ، وقال الجوهري : صغرت العسلة بالهاء لأن الغالب على العسل التأنيث قال : ويقال : إنما أنث لأنه أريد به العسلة وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من [ ص: 198 ] الذهب ذهبة والمراد بالعسيلة هنا الجماع لا الإنزال ، وقد جاء ذلك مرفوعا من حديث عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " العسيلة الجماع " رواه الدارقطني ، وفي إسناده أبو عبد الملك القمي يرويه عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، وقال ابن التين : يريد الوطء وحلاوة مسلك الفرج في الفرج ليس الماء .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وخالد بن سعيد بن العاص " بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي ، يكنى أبا سعيد أسلم قديما ، يقال : إنه أسلم بعد أبي بكر الصديق ، فكان ثالثا أو رابعا ، وقيل : كان خامسا ، وقال ضمرة بن ربيعة : كان إسلام خالد مع إسلام أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وهاجر إلى الحبشة ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وبعثه على صدقات اليمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن ، قتل بمرج الصفر في الوقعة به سنة أربع عشرة في صدر خلافة عمر رضي الله تعالى عنه ، وقيل : بل كان قتله في وقعة أجنادين بالشام قبل وفاة أبي بكر بأربع وعشرين ليلة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ألا تسمع إلى هذه . . . إلى آخره " كأنه استعظم لفظها بذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله : " تجهر " ورواه الدارقطني تهجر من الهجر يعني تأتي بالكلام القبيح .

                                                                                                                                                                                  ومما يستفاد منه أن الرجل إذا أراد أن يعيد مطلقته بالثلاث فلا بد من زوج آخر يتزوج بها ويدخل عليها .

                                                                                                                                                                                  وأجمعت الأمة على أن الدخول شرط الحل للأول ولم يخالف في ذلك إلا سعيد بن المسيب والخوارج والشيعة وداود الظاهري وبشر المريسي ، وذلك اختلاف لا خلاف لعدم استنادهم إلى دليل ، ولهذا لو قضى به القاضي لا ينفذ ، والشرط الإيلاج دون الإنزال ، وشذ الحسن البصري في اشتراط الإنزال .

                                                                                                                                                                                  وفيه ما قاله المهلب : جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والستر لأن خالدا سمع قول المرأة وهو من وراء الباب ثم أنكره عليها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم ينكر عليه ، وفيه إنكار الهجر في القول إلا أن يكون في حق لا بد له من البيان عند الحاكم ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية