الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) : ، أي يستخبرونك . وأحق هو الضمير عائد على العذاب . وقيل : على الشرع والقرآن . وقيل : على الوعيد ، وقيل : على أمر الساعة ، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري : بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد .

وقال ابن عطية : معناه يستخبرونك ، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين : أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء والخبر ، فعلى ما قال يكون يستنبئونك معلقة . وأصل استنبأ أن يتعدى إلى مفعولين : أحدهما بعن ، تقول : استنبأت زيدا عن عمرو ، أي : طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، والظاهر أنها معلقة عن المفعول الثاني .

قال ابن عطية : وقيل هي بمعنى يستعلمونك . قال : فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة ، أحدها : الكاف والابتداء ، والخبر سد مسد المفعولين ، انتهى . وليس كما ذكر ، لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ استعلمت زيدا عمرا قائما فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أن تتعدى إلى ثلاثة ، لأن استعلم لا يتعدى إلى ثلاثة كما ذكرنا . وارتفع هو على أنه مبتدأ ، وحق خبره .

وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعل به سد مسد الخبر ، وحق ليس اسم فاعل ولا مفعول ، وإنما هو مصدر في الأصل ، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت . وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار .

وقرأ الأعمش : الحق . قال الزمخشري : وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل ، وذلك أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ، أو : أهو الذي سميتموه الحق ؟ انتهى .

وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيبا لهم : ( قل إي وربي ) ، أي : نعم وربي . وإي تستعمل في القسم خاصة ، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة . قال معناه الزمخشري قال : وسمعتهم يقولون في التصديق : إي فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده ، انتهى . ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام [ ص: 169 ] العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة . وقال ابن عطية : هي لفظة تتقدم القسم ، وهي بمعنى نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : إي ربي ، إي وربي ، انتهى .

وقد كان يكتفى في الجواب بقوله : إي وربي ، إلا أنه أكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله : ( إي وربي ) مسوقة مؤكدة بإن واللام مبالغة في التوكيد في الجواب ، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب ، وكان سؤالا عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع . قيل : وما أنتم بمعجزين ، أي : فائتين العذاب المسئول عنه ، بل هو لاحق بكم .

واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم ، فتكون معطوفة على الجواب قبلها . واحتمل أن تكون إخبارا ، معطوفا على الجملة المقولة لا على جواب القسم . وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال : ( ولن نعجزه هربا ) ، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب : أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، وقال الزجاج : أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم .

( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة .

وظلمت صفة لنفس . والظلم هنا : الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعا لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين .

وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر . قال الفرزدق :


ولما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أظهرا



وقال آخر :


فأسررت الندامة يوم نادى     برد جمال غاضرة المنادي



وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ويحتمل هنا الوجهين . أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ، ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله ، ولأن حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب وقد قالوا : ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) ، وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم وهذا فيه بعد ، لأن من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه ، فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة . وأيضا وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفلة . وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخا ، ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكلمة ، ويبقى مبهوتا جامدا . وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا لله في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم ، أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية .

والظاهر أن قوله : ( وقضي بينهم بالقسط ) ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت . وقال الزمخشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم ، انتهى .

وقيل : يعود على المؤمن والكافر . وقيل : على الرؤساء والأتباع .

( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) قيل : تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أن النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به ، وهي لا شيء لها البتة لأن جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى وهو المتصرف فيها ، إذ له الملك والملك . ويظهر أن مناسبتها [ ص: 170 ] لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو ؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة ، وكان ذلك جوابا كافيا لمن وفقه الله تعالى للإيمان ، كما كان جوابا للأعرابي حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم : آلله أرسلك ؟ قوله عليه السلام : " اللهم نعم " فقنع منه بإخباره - صلى الله عليه وسلم - إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق ، كما قال هرقل : لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأن ما سواه فهو ملكه وملكه ؟ وعن هذا بهذه الآية ، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله : ( إن في اختلاف الليل والنهار ) الآية وقوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء ) فاكتفى هنا عن ذكرها .

وإذا كان جميع ما في العالم ملكه وملكه كان قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، غنيا عن جميع الحاجات ، منزها عن النقائص والآفات ، وبكونه قادرا على الممكنات كان قادرا على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة ، وقادرا على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه ، فبطل الاستهزاء والتعجيز .

وبتنزيهه عن النقائص كان منزها عن الخلف والكذب ، فثبت أن قوله : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) مقدمة توجب الجزم بصحة قوله : ألا إن وعد الله حق . وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيها للغافل ، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف ، ولذلك قال تعالى : ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) يعني : لغفلتهم عن هذه الدلائل ، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة .

فيجب أن يكون قادرا على إحيائه مرة ثانية ، ولذلك قال : وإليه ترجعون ، فترون ما وعد به . وقرأ الحسن بخلاف عنه ، وعيسى ابن عمر : يرجعون بالياء على الغيبة . وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب .

( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) : قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق هو ؟ فالناس هم كفار قريش . وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو القرآن ، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن . قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، هو شفاء ، أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم ، انتهى .

ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم ، فمن لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم فتتعلق بمحذوف ، فمن للتبعيض . وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد .

قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين ، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تأول بأن وجهه ، انتهى . وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاما كثيرا ممزوجا بما يسمونه حكمة : نعلم قطعا أن العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن ، وطول في ذلك ، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره ، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال ، والإشراق إلى حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوة . فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية ، لا يمكن تأخر ما تقدم ذكره ، ولا تقدم ما تأخر ذكره .

[ ص: 171 ] ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) : قال الزمخشري عن أبي بن كعب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ : ( قل بفضل الله وبرحمته ) فقال : بكتاب الله والإسلام ، فضله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه ، انتهى .

ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه . قال ابن عباس والحسن وقتادة وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام ورحمته القرآن . وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا ، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن ، والرحمة أن جعلهم من أهله .

وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عمر : الفضل الإسلام ، والرحمة تزيينه في القلوب . وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن ، واختاره الزجاج .

وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن ، والرحمة السنة . وعنه أيضا أن الفضل الإسلام ، والرحمة الستر . وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء ، ورحمته الرؤية واللقاء . وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان ، والرحمة الجنة .

وقيل : الفضل التوفيق ، والرحمة العصمة . وقيل : الفضل نعمه الظاهرة ، والرحمة نعمه الباطنة . وقال الصادق : الفضل المغفرة ، والرحمة التوفيق . وقال ذو النون : الفضل الجنان ، ورحمته النجاة من النيران .

وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل ، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات ، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه .

وقال ابن عطية : وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أن الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان .

ومعنى الآية : قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم : فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه ، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته ، والكافرون يقال لهم : بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك ، انتهى . والظاهر أن قوله : قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا : جملتان ، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد . قال الزمخشري : والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك ، فليفرحوا .

ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك ، أي : فبمجيئهما فليفرحوا ، انتهى .

أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه ، وأما تعليقه بقوله : قد جاءتكم ، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفا بعد قل ، ولا يكون متعلقا بـ ( جاءتكم ) الأولى للفصل بينهما بقل .

وقال الحوفي : الباء متعلقة بما دل على المعنى ، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله . وقيل : الفاء الأولى زائدة ، ويكون بذلك بدلا قبله ، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة . وقيل : كررت الفاء الثانية للتوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا ، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا ، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله : ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) لاختلاف المتعلق ، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته ، والمنهي هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد ، ولذلك جاء بعده : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) وقبله : ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) وقوله : ( لفرح فخور ) جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء ، ويأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه ، وهذه صفة مذمومة ، وليس ذلك من أفعال الآخرة . وقول من قال : إذا أطلق [ ص: 172 ] الفرح كان مذموما ، وإذا قيد لم يكن مذموما كما قال : ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) ليس بمطرد ، إذ جاء مقيدا في الذم في قوله تعالى : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه ، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وأعمال البر كان محمودا ، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموما .

وقرأ عثمان بن عفان وأبي وأنس والحسن وأبو رجاء وابن هرمز وابن سيرين وأبو جعفر المدني والسلمي وقتادة والجحدري وهلال بن يساف والأعمش وعمرو بن قائد والعباس بن الفضل الأنصاري : فلتفرحوا بالتاء على الخطاب ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال صاحب اللوامح : وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك ، انتهى . وقال ابن عطية : وقرأ أبي وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون . ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم : فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة ، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة ، وعن أكثرهم خلاف ، انتهى .

والجمهور بالياء على أمر الغائب . وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه ، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمرا للغائب ، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب .

وفي مصحف أبي : فبذلك فافرحوا ، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب .

وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة . وفي الحديث : ( لتأخذوا مصافكم ) وقرأ أبو التياح والحسن : فليفرحوا بكسر اللام ، ويدل على أن ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحدا في قوله : هو خير مما يجمعون ، فالذي ينبغي أن قوله تعالى : بفضل الله وبرحمته ، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد ، ولذلك أشير إليه بذلك ، وعاد الضمير عليه مفردا . وقوله : مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها .

( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى : ( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم ، بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحي .

وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني . وجوزوا في ما أنزل : أن تكون موصولة مفعولا أول لأرأيتم ، والعائد عليها محذوف ، والمفعول الثاني قوله : آلله أذن لكم ، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه ، وكرر قل قبل الخبر على سبيل التوكيد .

وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل ، قاله الحوفي والزمخشري . وقيل : ما استفهامية مبتدأة ، والضمير من الخبر محذوف تقديره : آلله أذن لكم فيه أو به ، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد . وجعل ما موصولة هو الوجه ، لأن فيه إبقاء أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه ، بخلاف جعلها استفهامية ، فإن أرأيت إذ ذاك تكون معلقة ، ويكون ما قد سدت مسد المفعولين ، والظاهر أن أم متصلة والمعنى : أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ؟ ، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه ؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين ، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم .

وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى بل ، أتفترون على الله تقريرا للافتراء ، انتهى .

وأنزل هنا قيل معناه : خلق كقوله : ( وأنزلنا الحديد ) ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . وقيل : أنزل على بابها وهو على حذف مضاف ، أي : من سبب رزق وهو المطر .

وقال ابن عطية : أنزل لفظة فيها تجوز ، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل ، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراما وحلالا .

قال مجاهد : هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو إشارة إلى قوله : [ ص: 173 ] ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) .

( وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) : ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن ، والمعنى : أي شي ظن المفترين يوم القيامة ، أبهم الأمر على سبيل التهديد ، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة . ويوم منصوب بظن ، ومعمول الظن قيل تقديره : ما ظنهم أن الله فاعل بهم ، أينجيهم أم يعذبهم ؟ وقرأ عيسى بن عمرو : ما ظن جعله فعلا ماضيا ، أي : أي ظن ظن الذين يفترون ، فما في موضع نصب على المصدر ، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول : ما تضرب زيدا ؟ تريد : أي ضرب تضرب زيدا .

وقال الشاعر :


ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما     لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا



وجيء بلفظ ظن ماضيا لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان ، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن ، لكونه عاملا في يوم القيامة . وهو ظرف مستقبل ، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم ، فأرسل إليهم الرسل ، وفصل لهم الحلال والحرام ، وأكثرهم لا يشكر هذه النعمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية