الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    صفحة جزء
                    ( ظهور الاتجاه العقلي )

                    فمضت على هذه القرون ماضون ، الأولون والآخرون ، حتى ضرب الدهر ضرباته ، وأبدى من نفسه حدثاته ، وظهر قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف ، وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول ، وفي حقائق المعقول ، وأهدى إلى التحقيق ، وأحسن نظرا منهم في التدقيق ، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم ، ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم ، وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم ، حتى أبدلوا من الطيب خبيثا ، ومن القديم حديثا ، وعدلوا عما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثه الله عليه ، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه ، وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله ، فقال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) فوعظ الله - عز وجل - عباده بكتابه ، وحثهم على اتباع سنة رسوله ، وقال في آية أخرى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) لا بالجدال والخصومة ، فرغبوا عنهما وعولوا على غيرهما ، وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين ، [ ص: 18 ] وخاضوا مع الخايضين ، ودخلوا في ميدان المتحيرين ، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة ؛ رغبة للغلبة وقهر المخالفين للمقالة .

                    ثم اتخذوها دينا واعتقادا بعد ما كانت دلايل الخصومات والمعارضات ، وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين ، وتسموا بالسنة والجماعة ، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة ، فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة ، ولم يسع في طلبها ؛ لما يلحقه فيها من المشقة ، وطلب لنفسه الدعة والراحة ، واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة ، ومحبة اشتهار الذكر عند العامة ، والتلقب بإمامة أهل السنة ، وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار ، وتزهيد الناس أن يتدينوا بالآثار ؛ لجهله بطرقها ، وصعوبة المرام بمعرفة معانيها ، وقصور فهمه عن مواقع الشريعة منها ، ورسوم التدين بها ، حتى عفت رسوم الشرائع الشريفة ، ومعاني الإسلام القديمة ، وفتحت دواوين الأمثال والشبه ، وطويت دلايل الكتاب والسنة ، وانقرض من كان يتدين بحججها ؛ للأخذ بالثقة ، ويتمسك بهما للضنة ، ويصون سمعه عن هذه البدع [ ص: 19 ] المحدثة ، وصار كل من أراد صاحب مقالة وجد على ذلك الأصحاب والأتباع ، وتوهم أنه ذاق حلاوة السنة والجماعة بنفاق بدعته ، وكلا أنه كما ظنه أو خطر بباله ، إذ أهل السنة لا يرغبون عن طرايقهم من الاتباع وإن نشروا بالمناشير ، ولا يستوحشون لمخالفة أحد بزخرف قول من غرور ، أو بضرب أمثال زور .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية