الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن عبيد ) بالتصغير ( المحاربي ) بضم أوله وبمهملة ، وكسر راء وموحدة نسبة لبني محارب قبيلة من العرب ، وفي نسخة : زيادة الكوفي أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي ، ( حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ) بمهملة وكسر زاي أخرج حديثه الستة ( عن موسى بن عقبة ) مر ذكره ( عن نافع عن ابن عمر قال : اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب ) قال ميرك : زاد عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند البخاري ، وجعل فصه مما يلي كفه ، ونقش فيه محمد رسول الله ، وليس فيه قوله : ( فكان يلبسه في يمينه ) أي قبل تحريم الذهب على الرجال ، قال ميرك : وأخرجه البخاري أيضا من طريق جويرية [ ص: 191 ] عن ابن عمر وقال في آخره : قال جويرية ولا أحسبه إلا قال في يده اليمنى ( فاتخذ الناس ) أي الذكور منهم أو الكل ، ثم نسخ وأبيح للنساء ( خواتيم من ذهب فطرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي للوحي بتحريمه والظاهر أن الفاء تعقيبية ، وجعلها العصام تفريعية ، حيث قال : تفريع للطرح على اتخاذ الناس دون لبسهم ، دل على أن ما صار منهيا هو اتخاذه من غير اعتبار اللبس ، حيث كره اتخاذهم ذلك انتهى . وفيه أن الظاهر أن الناس اتخذوها للبس أو اتخذوها ولبسوها وليس في الحديث ، ما يدل على أن الطرح قبل لبسهم مع أن مجرد اتخاذ خاتم الذهب ليس بمنهي إجماعا ، وقد طرحه صلى الله عليه وسلم ( وقال لا ألبسه أبدا ) وهو يدل على أن المكروه لبسه ، وأما جعل نفي اللبس كناية عن كراهية الاتخاذ ، ففي غاية من البعد ، ومما يدل على أن المقصود كراهة اللبس ، وعلى أنهم لبسوه قبل ذلك ، قوله : ( فطرح الناس خواتيمهم ) أي من أيديهم والخواتيم جمع خاتم كالخواتم والياء فيها للإشباع ، قال ابن حجر : وهذا هو الناسخ لحله مع قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة ، وقد أخذ ذهبا في يد وحريرا في يد ، وقال : هذان حرامان على ذكور أمتي ، حل لإناثها . ووقع لبعض من لا إلمام له بالفقه هنا تخليط فاجتنبه ، كيف والأئمة الأربعة على تحريمه للنهي عنه في الصحيحين وغيرهما ، ورخصت فيه طائفة ، واستدلوا بأن خمسة من الصحابة ماتوا وخواتيمهم من ذهب ، ويرد بأن ذلك إن صح عنهم يتعين حمله على أنه لم يبلغهم النهي عنه انتهى . قال الإمام محيي السنة : هذا الحديث يشتمل على أمرين : تبدل الحكم فيهما اتخاذ خاتم الذهب ، تبدل جوازه بالامتناع في حق الرجال ، واللبس في اليمين تبدل باللبس في اليسار ، وتقرر الأمر عليه ، وهذا ينافي ما قال النووي : من أن الإجماع على جواز التختم في اليمنى واليسرى ، هذا وقد ثبت من طريق ابن شهاب عن أنس أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ، ولبسوها فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه ، وطرح الناس خواتيمهم ، مع جواز لبسه للخوف عليهم من التكبر والخيلاء انتهى . وقد تقدم أن وجهه هو أن لا يلبس أحد ممن لا يحتاج إلى الختم به ، قال ميرك : وفي رواية عبيد الله فلما رآهم اتخذوها رمى به وفي رواية جويرية ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : إني كنت اصطنعته ، وإني لا ألبسه ، وفي رواية المغيرة بن زياد فرمى به فلا يدرى ما فعل ، قال : وهذا يحتمل أن يكون لكونه من ذهب ، وصادف وقت تحريم لبس الذهب للرجال ، والله أعلم .

واعلم أن جمهور السلف والخلف على حرمة التختم بخاتم الذهب للرجال دون النساء ، والاعتبار بالحلقة عند الحنفية فلا بأس ، بمسمار الذهب على الخاتم خلافا للشافعية ، وذهب بعض العلماء إلى أن لبس خاتم الذهب مكروه كراهة تنزيه ، لا تحريم ، فقول القاضي عياض أن الناس مجمعون على تحريمه ، ليس بسديد ، اللهم إلا أن يقال : أراد بالناس الجمهور ، أو يقال : انقرض قرن من قال بكراهة [ ص: 192 ] التنزيه ، واستقر الإجماع على التحريم ، ويؤيده أن جماعة من الصحابة كسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وصهيب وجابر بن سمرة ، وعبد الله بن يزيد الخطمي ، وحذيفة وأبي أسيد ، كانوا يجعلون خواتيمهم من ذهب ، كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، واستغرب ابن حجر ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي عن خاتم الذهب ، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر ، قال : رأيت على جابر خاتما من ذهب ، وأخرج البغوي عن شعبة عن ابن إسحاق نحوه وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك رأيت على البراء خاتما من ذهب ، فقال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه ، فقال : البس ما كساك الله ورسوله ، قال الحازمي : إسناده ليس بذاك ، ولو صح فهو منسوخ ، قال العسقلاني : لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد روى حديث النهي المتفق على صحته عنه ، وهو حديث : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ، ونهانا عن سبع " وذكر الحديث ، وفيه : " نهانا عن خاتم الذهب " فالجمع بين روايته وفعله ، إما بأن يكون حمل النهي على التنزيه ، أو فهم الخصوصية من قوله البس ما كساك الله ورسوله ، وهذا أولى من قول البخاري ، لعل البراء لم يبلغه النهي ، ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد كان الناس يقولون للبراء : لم تتختم بالذهب ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيذكر هذا الحديث ، ثم يقول : كيف تأمروني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البس ما كساك الله ورسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية