الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأقسامه ) أي أقسام خطاب الوضع أربعة ( علة ، وسبب ، وشرط ، ومانع ) قال في شرح التحرير : وقد اختلف في العلة : هل هي من خطاب الوضع أم لا ؟ قال : فنحن تابعنا بذكرها هنا الشيخ - يعني الموفق - في الروضة ، والطوفي وابن قاضي الجبل ( والعلة أصلا ) أي في الأصل ( عرض موجب لخروج البدن الحيواني عن الاعتدال الطبيعي ) وذلك لأن العلة في اللغة هي المرض ، والمرض هو هذا العرض المذكور . والعرض في اللغة : ما ظهر بعد أن لم يكن ، وفي اصطلاح المتكلمين : ما لا يقوم بنفسه ، كالألوان والطعوم والحركات والأصوات . وهو كذلك عند الأطباء ، لأنه عندهم عبارة عن حادث ما ، إذا قام بالبدن أخرجه عن الاعتدال . وقولنا " موجب لخروج البدن " هو إيجاب حسي كإيجاب الكسر للانكسار ، والتسويد للاسوداد . فكذلك الأمراض البدنية موجبة لاضطراب البدن إيجابا محسوسا .

وقولنا " البدن الحيواني " احتراز عن النباتي والجمادي ، فإن الأعراض المخرجة لها عن حال الاعتدال ما من شأنه الاعتدال منها : لا يسمى في الاصطلاح عليلا . وقولنا " عن الاعتدال الطبيعي " هو إشارة إلى حقيقة المزاج ، وهو الحال المتوسطة الحاصلة عن تفاعل كيفيات العناصر بعضها في بعض . فتلك الحال هي الاعتدال الطبيعي . فإذا انحرفت عن التوسط لغلبة الحرارة أو غيرها : كان ذلك هو انحراف المزاج ، وانحراف المزاج هو العلة والمرض والسقم ( ثم استعيرت ) العلة ( عقلا ) أي من جهة العقل ( لما أوجب حكما عقليا ) كالكسر للانكسار ، والتسويد الموجب ، أي المؤثر للسواد .

( لذاته ككسر لانكسار ) أي لكونه كسرا أو تسويدا ، لا لأمر خارج من وضعي أو اصطلاحي .

وهكذا العلل العقلية . هي مؤثرة لذواتها بهذا المعنى . كالتحريك الموجب للحركة ، [ ص: 137 ] والتسكين الموجب للسكون ( ثم ) استعيرت العلة ( شرعا ) أي من التصرف العقلي إلى التصرف الشرعي ، فجعلت فيه ( ل ) معان ثلاثة . أحدها ( ما أوجب حكما شرعيا ) أي ما وجد عنده الحكم ( لا محالة ) أي قطعا ( وهو ) المجموع ( المركب من مقتضيه ) أي مقتضي الحكم .

( وشرطه ، ومحله ، وأهله ) تشبيها بأجزاء العلة العقلية . وذلك لأن المتكلمين وغيرهم . قالوا : كل حادث لا بد له من علة ، لكن العلة : إما مادية ، كالفضة للخاتم ، والخشب للسرير ، أو صورية : كاستدارة الخاتم ، وتربيع السرير ، أو فاعلية : كالصانع والنجار ، أو غائية : كالتحلي بالخاتم ، والنوم على السرير . فهذه أجزاء العلة العقلية . ولما كان المجموع المركب من أجزاء العلة هو العلة التامة استعمل الفقهاء لفظة " العلة " بإزاء الموجب للحكم الشرعي ، والموجب لا محالة : هو مقتضيه وشرطه ومحله وأهله ، مثاله : وجوب الصلاة ، حكم شرعي ، ومقتضيه : أمر الشارع بالصلاة ، وشرطه : أهلية المصلي لتوجه الخطاب إليه ، بأن يكون عاقلا بالغا ، ومحله الصلاة [ وأهله : المصلي ] وكذلك حصول الملك في البيع والنكاح : حكم شرعي ومقتضيه : كون الحاجة داعية إليهما .

وصورته : الإيجاب والقبول فيهما . وشرطه : ما ذكر من شروط صحة البيع والنكاح في كتب الفقه . ومحله : هو العين المبيعة والمرأة المعقود عليها ، وأهليته : كون العاقد صحيح العبارة والتصرف . وقال الشيخ الموفق : لا فرق بين المقتضي والشرط والمحل والأهل ، بل العلة المجموع ، والأهل والمحل : وصفان من أوصافها . وقال الطوفي في شرحه : قلت : الأولى أن يقال : هما ركنان من أركانها ، لأنه قد ثبت أنهما جزءان من أجزائها . وركن الشيء هو جزؤه الداخل في حقيقته . وبالجملة : فهذه الأشياء الأربعة مجموعها يسمى علة ( و ) المعنى الثاني مما استعيرت له العلة من التصرف العقلي إلى التصرف الشرعي : استعارتها ( لمقتضيه ) أي مقتضي الحكم الشرعي ، وهو المعنى الطالب للحكم ( وإن تخلف ) الحكم عن مقتضيه ( لمانع ) من الحكم ( أو فوات شرط ) الحكم . مثاله : اليمين . هي المقتضية لوجوب الكفارة ، فتسمى علة للحكم .

وإن كان وجوب الكفارة إنما يتحقق [ ص: 138 ] بوجود أمرين : الحلف الذي هو اليمين ، والحنث فيها ، لكن الحنث شرط في الوجوب ، والحلف هو السبب المقتضي له ، فقالوا : إنه علة . فإذا حلف الإنسان على فعل شيء أو تركه ، قيل : قد وجدت منه علة وجوب الكفارة ، وإن كان الوجوب لا يوجد حتى يحنث ، وإنما هو بمجرد الحلف انعقد سببه . وكذلك الكلام في مجرد ملك النصاب ونحوه . ولهذا لما انعقدت أسباب الوجود بمجرد هذه المقتضيات جاز فعل الواجب بعد وجودها ، وقبل وجود شرطها عندنا ، كالتكفير قبل الحنث ، وإخراج الزكاة قبل الحول . وقوله " وإن تخلف لمانع " مثل أن يكون القاتل أبا للمقتول ، فإن الإيلاد مانع من وجوب القصاص . وكذا النصاب يسمى علة لوجوب الزكاة ، وإن تخلف وجوبها لوجود مانع كالدين .

وقوله " أو فوات شرط " مثل القتل العمد العدوان . فإنه يسمى علة لوجوب القصاص ، وإن تخلف وجوبه لفوات شرطه ، وهو المكافأة ، بأن كان المقتول عبدا أو كافرا ، والقاتل حرا أو مسلما . وكذا ملك النصاب ، فإن وجوب الزكاة قد يتخلف عنه لفوات شرط ، وهو خروجه عن ملكه قبل تمام الحول .

( و ) المعنى الثالث مما استعيرت له العلة من التصرف العقلي إلى التصرف الشرعي : استعارتها ( للحكمة ) أي حكمة الحكم ( وهي المعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم ، كمشقة سفر لقصر وفطر ) وبيان المناسبة : أن حصول المشقة على المسافر معنى مناسب لتخفيف الصلاة عنه بالقصر ، وتخفيف مشقة الصوم بإباحة الفطر ( و ك ) وجود ( دين وأبوة لمنع ) وجوب ( زكاة وقصاص ) وبيان المناسبة : أن انقهار مالك النصاب بالدين الذي عليه معنى مناسب لإسقاط وجوب الزكاة عنه ، وكون الأب سببا لوجود الابن معنى مناسب لسقوط القصاص عنه ; لأنه لما كان سببا لإيجاده لم تقتض الحكمة أن يكون الولد سببا لإعدام أبيه وهلاكه لمحض حق الابن . واحترز بهذا القيد عن أنه لا يمتنع رجمه إذا زنى بابنته ، لكون ذلك حقا لله تعالى دونها

التالي السابق


الخدمات العلمية