الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 427 ] 50 - قالوا : حديث ينقضه القرآن

        ميراث النبوة

        قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنا - معشر الأنبياء - لا نورث ، ما تركنا صدقة .

        وهذا خلاف قول الله - عز وجل - حكاية عن زكريا : وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ، وخلاف قوله : - عز وجل - : وورث سليمان داود .

        قالوا : وقد طالبت فاطمة - رضي الله عنها - أبا بكر - رضي الله عنه - بميراث أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما لم يعطها إياه ، حلفت لا تكلمه أبدا ، وأوصت أن تدفن ليلا لئلا يحضرها ، فدفنت ليلا واختصم علي والعباس - رضي الله عنهما - إلى أبي بكر - رضي الله عنه - في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        لم يورث الأنبياء مالا :

        قال أبو محمد : ونحن نقول إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا معشر [ ص: 428 ] الأنبياء لا نورث ليس مخالفا لقول زكريا - عليه السلام - : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ؛ لأن زكريا - عليه السلام - لم يرد يرثني مالي ، فيكون الأمر على ما ذهبوا إليه .

        وأي مال كان لزكريا - عليه السلام - يضن به عن عصبته حتى يسأل الله تعالى أن يهب له ولدا يرثه ؟

        لقد جل هذا المال إذا ، وعظم - عنده - قدره ، ونافس عليه منافسة أبناء الدنيا الذين لها يعملون وللمال يكدحون ، وإنما كان زكريا بن آذن نجارا ، وكان حبرا كذلك .

        قال وهب بن منبه : وكلا هذين الأمرين يدل على أنه لا مال له .

        زهد يحيى وعيسى - عليهما السلام - :

        وكذلك المشهور عن يحيى وعيسى - عليهما السلام - أنه لم يكن لهم أموال ولا منازل يأويان إليها ، وإنما كانا سياحين في الأرض .

        ومن الدليل أيضا على أن يحيى لم يرثه مالا ، أن يحيى - عليه السلام - دخل بيت المقدس وهو غلام صغير ، فكان يخدم فيه ، ثم اشتد خوفه فساح ولزم أطراف الجبال وغيران الشعاب .

        قال أبو محمد : وبلغني ، عن الليث بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : دخل يحيى بن زكريا بيت [ ص: 429 ] المقدس وهو ابن ثماني حجج ، فنظر إلى عباد بيت المقدس قد لبسوا من مدارع الشعر وبرانس الصوف ونظر إلى متهجديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى حنايا بيت المقدس ، فهاله ذلك ورجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون ، فقالوا : يا يحيى هلم فلنلعب ، قال : إني لم أخلق للعب . فذلك قوله تعالى : وآتيناه الحكم صبيا .

        فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ، ثم رجع إلى بيت المقدس ، فكان يخدم فيه نهارا ويسبح فيه ليلا حتى أتت له خمس عشرة حجة وأتاه الخوف ، فساح ولزم أطراف الأرض وغيران الشعاب ، وخرج أبواه في طلبه فوجداه حين نزلا من جبال البثنية على بحيرة الأردن ، وقد قعد على شفير البحيرة وأنقع قدميه في الماء ، وقد كاد العطش يذبحه وهو يقول : وعزتك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك . فسأله أبواه أن يأكل قرصا من الشعير كان معهما ، ويشرب من ذلك الماء ، ففعل ذلك وكفر عن يمينه ، فمدح بالبر .

        قال الله تعالى : وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ، ورده أبواه إلى بيت المقدس .

        فكان إذا قام في صلاته بكى ويبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه ، فلم يزل كذلك حتى خرقت دموعه لحم خديه ، فقالت له أمه : يا يحيى لو أذنت لي لاتخذت لك لبدا يواري هذا الخرق .

        قال : أنت وذاك فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه ، [ ص: 430 ] فكان إذا بكى استنقعت دموعه في القطعتين فتقوم أمه فتعصرهما ، فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعي أمه قال : اللهم هذه دموعي وهذه أمي ، وأنا عبدك وأنت الرحمن .

        فأي مال على ما تسمع ورثه يحيى ؟ وأي مال ورثه زكريا ؟ وإنما كان نجارا وحبرا ، وقد قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه في قوله - جل وعز - : فهب لي من لدنك وليا يرثني أي : يرثني الحبورة . وكان حبرا .

        ويرث من آل يعقوب أي : يرث الملك . وكان من ولد داود من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ، فأجابه الله - جل وعز - إلى وراثة الحبورة ولم يجبه إلى وراثة الملك .

        وكان زكريا - عليه السلام - كره أن يرثه ذلك عصبته وأحب أن يهب الله تعالى له ولدا يقوم مقامه ويرثه علمه .

        وقال الله - جل وعز - : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه .

        وراثة سليمان لداود :

        وأما قوله : وورث سليمان داود فإنه أراد ورثه الملك والنبوة والعلم ، وكلاهما كان نبيا وملكا ، والملك : السلطان والحكم والسياسة لا المال .

        [ ص: 431 ] ولو كان أراد وراثة ماله ما كان في الخبر فائدة ؛ لأن الناس يعلمون أن الأبناء يرثون الآباء أموالهم ، ولا يعلمون أن كل ابن يقوم مقام أبيه في العلم والملك والنبوة .

        ومن الدليل أيضا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يورث ، أنه كان لا يرث بعد أن أوحى الله تعالى إليه ، وإنما كانت وراثته أبويه قبل الوحي .

        قال أبو محمد : حدثنا زيد بن أخزم الطائي قال : ثنا عبد الله بن داود أن أم أيمن مما ورثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمه ، وشقران مما ورثه عن أبيه ، وكيف يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراث وهو يسمع الله - جل وعز - يذم قوما فقال : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما .

        حدثنا إسحاق بن راهويه قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا مسعر عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن مجاهد بن وردان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى في ميراث مولى له وقع من نخلة ، فسأل هل ترك ولدا ؟ قالوا : لا ، قال : فهل ترك حميما ؟ قالوا : لا ، قال : فأعطوه رجلا من أهل قريته . وكأنه تنزه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل ميراثه ، فآثر به رجلا من أهل قريته .

        [ ص: 432 ] ، وأما منازعة فاطمة أبا بكر - رضي الله عنهما - في ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بمنكر ؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم ، فلما أخبرها بقوله كفت ، وكيف يسوغ لأحد أن يظن بأبي بكر - رضي الله عنه - أنه منع فاطمة حقها من ميراث أبيها وهو يعطي الأحمر والأسود حقوقهم ؟

        وما معناه في دفعها عنه وهو لم يأخذ لنفسه ولا لولده ولا لأحد من عشيرته ، وإنما أجراه مجرى الصدقة ، وكان دفع الحق إلى أهله أولى به ، وكيف يركب مثل هذا ويستحله من فاطمة - رضي الله عنها - وهو يرد إلى المسلمين ما بقي في يديه من أموالهم مذ ولي ؟

        وإنما أخذه على جهة الأجرة ، فجعل قيامه لهم صدقة عليهم ، وقال لعائشة - رضي الله عنها - : انظري يا بنية ، فما زاد في مال أبي بكر مذ ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين ، فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش طعامهم ، ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم ، فنظرت فإذ بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم وحبشية ، فلما جاء به الرسول إلى عمر - رضي الله عنه - قال : رحم الله أبا بكر ، لقد كلف من بعده تعبا .

        ولو كان ما فعله أبو بكر من هذا الأمر ظلما لفاطمة - رضي الله عنها - لرده علي رضي الله عنه - حين ولي - على ولدها .

        [ ص: 433 ] وأما مخاصمة علي والعباس إلى أبي بكر - رضي الله عنهم - في ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس يصح لي معناه ، وكيف يتخاصمان في شيء لم يدفع إليهما ؟ أو يتحاقان شيئا قد منعاه ؟

        وكلاهما لا يخفى عليه أنهما إذا ورثا كان بعد ثمن نسائه لعلي من حق فاطمة - رضي الله عنها - النصف وللعباس - رضي الله عنه - النصف مع فاطمة ، ففي أي شيء اختصما ؟

        وإنما كان الوجه في هذا أن يخاصما أبي بكر ، وقد اختصما إلى عمر - رضي الله عنه - لما ولاهما القيام بذلك وإلى عثمان بعد ، وهذا تنازع له وجه وسبب ، رحمة الله عليهم أجمعين .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية