الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( كذلك ) ) أي كما أن علمنا لا يحيط بالذات المقدسة ( ( لا ينفك ) ) أي لا يخلص ولا يزول ( ( عن صفاته ) ) الذاتية وأفعاله الاختيارية ، فذاته المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين ، وصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ، فنسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه . وليس المنسوب كالمنسوب ، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه ، وأراد الناظم بما ذكر الرد على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات ، فإنهم يزعمون أن كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل ، فمن قال : لله تعالى علم قديم ، أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا ، لأن القدم عند جمهورهم هو أخص وصف الإله فمن أثبت له [ ص: 216 ] صفة قديمة فقد أثبت له مثلا قديما فيسمونه ممثلا بهذا الاعتبار .

ومثبتو الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه على كل شيء قدير ، وأنه إله واحد ، ونحو ذلك والصفة لا توصف بشيء من ذلك ، ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات إنها قديمة بل يقول الرب بصفاته قديم ، ومنهم من يقول : هو قديم ، وصفته قديمة ، ولا يقول هو وصفته قديمان ، ومنهم من يقول هو وصفاته قديمان ، ولكن يقول : ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه ، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة ، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بالصفات ، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن أن تختص بالقدم .

وقد يقولون : الذات متصفة بالقدم ، والصفات متصفة بالقدم ، وليست الصفات إلها ولا ربا كما أن النبي محدث وصفاته محدثة ، وليست الصفات نبيا ، فهؤلاء المعتزلة إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب اعتقادهم الفاسد الباطل .

وهب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها ، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع ، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية .

والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ، والصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا تدخل في النص ، وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة ، وكذلك زعمهم أن الصفات لا تقوم إلا بجسم فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام ، وهذا هو التشبيه ، وهذا باطل ، فإن الله تعالى لا مثل له بل له المثل الأعلى فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل ، ولا في قياس شمول تستوي أفراده ، ولكن يستعمل في حقه تعالى المثل الأعلى هو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق به أولى ، وكل ما ينزه عنه المخلوق ، فالخالق أنزه عنه وأعلى ، فالذي يعتمد عليه نفي النقص والعيب مما هو سبحانه مقدس عنه فهذه الطريق الصحيح ، والمحجة الرجيحة ، فيثبت له من صفات الكمال ، ما يليق بعزة ذي الجلال ، وينفي مماثلة غيره له فيها فلا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه ، وكل صفة من صفات الكمال فهو [ ص: 217 ] متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ، فمذهب السلف وأئمة الدين إثبات ما وصف الله به نفسه من الصفات ، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات ، كما تقدم الكلام على الصفات بما لعل فيه كفاية لمن تبصر ، والله الموفق . تنبيه

اختلف النظار في صفات الباري عز وجل ، هل هي عين ذاته تعالى ، أو غير ذاته المقدسة ، وبهذه الشبهة نفت المعتزلة الصفات عن الذات لأنهم قالوا : إما أن تكون الصفات حادثة ، فيلزم قيام الحوادث بذاته ، وخلوه تعالى في الأزل عن العلم والقدرة والإرادة والحياة ، وغيرها من الكمالات ، وصدورها عنه تعالى بالقصد والاختيار أو بشرائط حادثة ، والجميع باطل بالاتفاق ، وإما أن تكون قديمة فيلزم تعدد القدماء ، وهو كفر بإجماع المسلمين ، وقد كفر النصارى بثلاثة قدماء فكيف بالأكثر .

والجواب إنما المحظور في تعدد القدماء المغايرة ، ونحن نمنع تغاير الذات مع الصفات ، والصفات بعضها مع بعض ؛ فينتفي التعدد والتكثر ، ولئن سلم ما زعموا من تعدد القدماء فالممتنع تعدد القدماء إذا كانت ذواتا مستقلة لا تعدد ذات وصفات لها ، فهذا مباين لقول النصارى ، كما لا يخفى عن ذي بصيرة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحم الله روحه - في شرح العقيدة الأصفهانية : واسم الغير فيه اصطلاحان أحدهما : أن الغيرين ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر ، والثاني : أن الغيرين ما جاز العلم بأحدهما للآخر . وعرفا أيضا بأنهما الموجودان اللذان يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر بوجود أو مكان أو زمان ، فالغيرية كون الموجودين يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر .

والعينية هي الاتحاد في المفهوم بلا تفاوت أصلا . فلا يكونان نقيضين بل يتصور بينهما واسطة بأن يكون الشيء بحيث لا يكون مفهومه مفهوم الآخر ، ولا يوجد بدونه ، كالجزء مع الكل ، والصفة مع الذات العلية ، وبعض صفاتها مع بعض .

قال شيخ الإسلام : والأول - يعني أن حد الغيرين : ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر - اصطلاح المعتزلة والكرامية ، والثاني : وهو أن حد الغيرين : ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كما تقدم اصطلاح طوائف من الكلابية والأشعرية ، ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة .

[ ص: 218 ] قال : وأما الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وغيره ، فإن لفظ الغير عندهم يحتمل هذا وهذا ، ولهذا كان السلف لا يطلقون القول بأن صفات الله تعالى غيره ، ولا أنها ليست غيره ، فلا يقولون كلام الله غير الله ، ولا يقولون ليس غير الله ، بل يستفسرون القائل عن مراده فقد يريد الأول وقد يريد الثاني ، وهذه طريقة حذاق النظار ، فإن أراد الاصطلاح الثاني فجزء الشيء اللازم وصفته اللازمة ليس بغير له ، فلا يكون ثبوته موجبا لافتقاره إلى غيره ، وإن تكلم بالأول فثبوت الغير بهذا التفسير ، لا بد منه فإنه يمكن العلم بوجوده ، والعلم بأنه خالق ، والعلم بعلمه ، والعلم بإرادته ، وهم يفسرون عن ذلك بالعقل والعناية ، وهذه المعاني أغيار على هذا الاصطلاح ، وثبوتها لازم لواجب الوجود ، وإذا كان ثبوت هذه الأغيار لازما له لم يجز القول بنفيها لأن نفيها يستلزم نفي واجب الوجود .

واعلم أن مثل هذا وإن سمي تركيبا فليس منافيا لوجوب الوجود فإذا قيل واجب الوجود لا يفتقر إلى غيره قيل لا يفتقر إلى غير يجوز مفارقته له أم إلى غير لازم لوجوده ؟ فالأول حق ، وأما الثاني إذا أريد بالافتقار أنه مستلزم له فممنوع .

وقال شيخ الإسلام أيضا - قدس الله سره - في كتابه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) ما ملخصه : من الناس من يقول : كل صفة للرب عز وجل غير الأخرى ، ويقول الغيران ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر .

ومنهم من يقول : ليست هي غير الأخرى ولا هي هي ، لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود .

قال : والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم : علم الله ، وكلام الله ، هل هو غير الله أم لا ؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات ؛ فإنه إذا قيل : هو غيره أوهم أنه مباين له ، وإذا قيل : ليس غيره أوهم أنه هو ، بل يستفصل السائل ، فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه ، وإن كان مخلوقا فكيف بصفات الخالق ؟ وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو فليست الصفة هي الموصوف فهي غيره بهذا الاعتبار ، واسم [ ص: 219 ] الرب إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما تستحقه من صفات الكمال ، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال ، فاسم ( الله ) جل وعز يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال ، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى بل هي داخلة في المسمى ، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي ثبتها نفاة الصفات

فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة ، قال هؤلاء : الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات ، وأما في نفس الأمر فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها ، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى ، انتهى . وهذا تحقيق لا مزيد عليه فاحفظه فإنه مهم ، وبالله التوفيق .

ثم أخذ في ذكر الصفات التي يثبتها السلف فقال ( ( فكل ما ) ) أي وصف ( ( قد جاء ) ) مضمونه ( ( في الدليل ) ) الشرعي من الكتاب العظيم ، وسنة النبي الكريم ، ووصفه به السلف الصالح ( ( و ) ) أنه ( ( ثابت ) ) له سبحانه وتعالى ، وموصوف به ( ( من غير ما ) ) زائدة لمزيد النفي وتأكيده ( ( تمثيل ) ) بل نثبت له ما ورد ولا نتعرض له بتأويل ولا رد ، فمذهب السلف في آيات الصفات أنها لا تؤول ، ولا تفسر بل يجب الإيمان بها ، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، فقد روى اللالكائي الحافظ عن محمد بن الحسن قال اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .

قال العلامة الشيخ مرعي ، وغيره من علمائنا ، وغيرهم : مضت أئمة السلف على الإيمان بظاهر ما جاء في الكتاب من آيات الصفات ، وكان الزهري ، ومالك ، والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وعبد الله بن المبارك ، والإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وغيرهم - رحمهم الله ، ورضي عنهم - يقولون في آيات الصفات : مروها كما جاءت .

وقال سفيان بن عيينة - وناهيك به علما وفهما وورعا وزهدا وإمامة - : وكل ما وصف الله نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، إلى غير ذلك مما ذكرناه أولا ، ومما لم نذكره مما هو أضعاف أضعاف أضعافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية