الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال : ولو أنهم آمنوا أي : بما دعوا إليه من هذا القرآن ، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله لا السحر ، واتقوا ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقا فنسخ من التوراة فصار باطلا ، ومن الإقدام على ما لم يكن حقا أصلا من السحر لأثيبوا خيرا مما تركوا ، لأن من ترك شيئا عوضه الله خيرا منه ; هكذا الجواب ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما يقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن فقال : لمثوبة صيغة مفعلة من الثواب ، وهو الجزاء بالخير ، وفي الصيغة [ ص: 83 ] إشعار بعلو وثبات ، قاله الحرالي ، وشرفها بقوله : من عند الله الذي له جميع صفات الكمال ، وزادها شرفا بقوله : خير مع حذف المفضل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      قاله الحرالي : وسوى بين هذه المثوبة ومضمون الرسالة في كونهما من عند الله تشريفا لهذه المثوبة وإلحاقا لها بالنمط العلي من علمه وحكمته ومضاء كلمته ، انتهى . وهذه المثوبة عامة لما يحصل في الدنيا والأخرى من الخيرات التي منها ما يعطيه الله لصالحي عباده من التصرف بأسماء الله الحسنى على حسب ما تعطيه مفهوماتها من المنافع ، ومن ذلك واردات الآثار ككون الفاتحة شفاء وآية الكرسي حرزا من الشيطان ونحو ذلك من منافع القرآن والأذكار والتبرك بآثار الصالحين ونحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أكد الخبر بأن علمهم جهل بقوله : لو كانوا يعلمون وقال الحرالي : فيه إشعار برتبة من العلم أعلى وأشرف من الرتبة التي كانت تصرفهم عن أخذ السحر ، لأن تلك الرتبة تزهد في علم ما هو [ ص: 84 ] شر وهذه ترغب في منال ما هو خير ; وفيه بشرى لهذه الأمة بما في كيانها من قبول هذا العلم الذي هو علم الأسماء ومنافع القرآن يكون لهم عوضا من علم السيميا الذي هو باب من السحر ، وعساه أن يكون من نحو المنزل على الملكين ، قال صلى الله عليه وسلم : "من اقتبس علما من النجوم اقتبس بابا من السحر ، زاد ما زاد" .

                                                                                                                                                                                                                                      وحقيقة السيميا أمر من أمر الله أظهر آثاره في العالم الأرضي على سبيل أسماء وأرواح خبيثة من مواطن الفتن في العلويات من النيرات والكواكب والصور ، وما أبداه منه في علوم وأعمال لا يثبت شيء منه مع اسمه تعالى ، بل يشترط في صحته إخلاؤه عن اسم الله وذكره والقيام بحقه وصرف التحنثات والوجهة إلى ما دونه ، فهو لذلك كفر موضوع فتنة من الله تعالى لمن شاء أن يفتنه به ، حتى كانت فتنة اسم السيميا من هدى الاسم بمنزلة اسم اللات والعزى من هداية اسم الله العزيز ، ولله كلية الخلق والأمر هدى وإضلالا إظهارا لكلمته الجامعة الشاملة لمتقابلات الأزواج التي منتهاها قسمة إلى دارين : دار نور رحماني من اسمه العزيز الرحيم ، ودار نار انتقامي من اسمه الجبار المنتقم ، ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جعل سبحانه من المضرة في السحر ونحوه كان من المثوبة لمن [ ص: 85 ] آمن واتقى من هذه الأمة سورة الفلق والناس والمعوذتان حرزا وإبطالا وتلقفا لما يأفك سحر الساحرات عوضا دائما باقيا لهذه الأمة من عصا موسى ، فهما عصا هذه الأمة التي تلقف ما يأفك سحر الساحرات عوضا دائما بما فيهما من التعويذ الجامع للعوذة من شر الفلق الذي من لمحة منه كان السحر مفرقا ، فهما عوذتان من وراء ما وراء السحر ونحوه ، وذلك من مثوبة الدفع مع ما أوتوا من مثوبة النفع ، ويكاد أن لا يقف من جاءه هذه الآية لهذه الأمة عند غاية من منال الخيرات ووجوه الكرامات ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية