الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ) المسلم والمسلم والمستسلم واحد وهو : المنقاد الخاضع ، والمراد بالكلمة : ما يشمل التوحيد والإخلاص لله - تعالى - في الاعتقاد والعمل جميعا ، ومعنى الأول - أي الإخلاص في الاعتقاد - أي لا يتوجه المسلم بقلبه إلا إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلا بالله ، ومعنى الثاني : أن يقصد بعمله مرضاة الله - تعالى - لا اتباع الهوى وإرضاء الشهوة ، وإنما يرضيه - تعالى - منا أن نزكي نفوسنا بمكارم الأخلاق ، ونرقي عقولنا بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان ، فبذلك نكون محل عنايته - تعالى - ومستودع معرفته ، وموضع كرامته ، ومن يقصد بأعماله إرضاء لشهوته واتباع هواه لا يزيد نفسه إلا خبثا ، وبذلك يكون بعيدا عن الإسلام ويصدق عليه قوله : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) ( 25 : 43 ) ؟ .

                          وقد يقال : إن الإسلام يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة وهو سائق فطري ، فكيف ينافيه الإسلام وهو دين الفطرة . ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق إليه التلذذ بالطعام ، ومثل ذلك طلب اللذات العقلية والأدبية فكيف يمكن أن يكون ما يطلب للذة خالصا لله وحده ؟ والجواب : أن الإسلام قد حل هذه المسألة حلا لا يجده الإنسان في ديانة أخرى ، ذلك أنه لم يحرم علينا إلا ما هو ضار بنا ، ولم يوجب علينا إلا ما هو نافع لنا ، وقد أباح لنا ما لا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة إذا قصد بها مجرد اللذة ، وأما إذا قصد بها مع اللذة غرض صحيح وفعلت بنية صالحة فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها ، ومن نية المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يسر إخوانه بلقائه ، وأن يظهر نعم الله عليه ، وأن يتقرب [ ص: 387 ] إلى امرأته ويدخل السرور عليها ، وإنما الهوى المذموم في الإسلام هو الهوى الباطل ، كأن يتزين الرجل ويتطيب للمفاخرة والمباهاة ، أو ليستميل إليه النساء الأجنبيات عنه ، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعا و ( ( إنما الأعمال بالنيات ) ) .

                          دعا هذان النبيان العظيمان لأنفسهما بحقيقة الإسلام ، ثم دعوا بذلك لذريتهما فقالا : ( ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) أي واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك كإسلامنا ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة .

                          قال الأستاذ الإمام : أضافا الذرية إلى ضمير الاثنين للدلالة على أن المراد الذرية التي تنسب إليهما معا وهي ما يكون من ولد إسماعيل ، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ويرجحه الحال والمحل الذي كانا فيه ، وعزم إبراهيم على أن يدع إسماعيل في بلاد العرب داعيا إلى توحيد الله ، وإسلام القلب إليه ، ويرجع هو إلى بلاد الشام ، وكذلك الدعاء لهذه الذرية بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي .

                          وقد استجاب الله - تعالى - دعاء إبراهيم وولده - عليهما السلام ، وجعل في ذريتهما أمة الإسلام ، وبعث فيها منها خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام ، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله في سورة الحج : ( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ( 22 : 78 ) وعلم مما تقدم أن المراد بالإسلام معناه الذي شرحناه ، فمن قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن ، وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمة مخصوصة حتى يكون كل من يولد فيها أو يقبل لقبها مسلما ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن ، ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وقد جرى إبراهيم وولده على سنة الفطرة في هذا الدعاء أيضا ، فخصاه ببعض الذرية ؛ لأنه قد يكون منها من لا يتناول الإسلام .

                          ( وأرنا مناسكنا ) أي علمنا إياها علما يكون كالرؤية البصرية في الجلاء والوضوح ، والمناسك : جمع منسك بفتح السين في الأفصح من النسك ( بضمتين ) ومعناه غاية العبادة ، وغلب استعمال النسك في عبادة الحج خاصة ، والمناسك في معالمه أو أعماله ، ( وتب علينا ) أي وفقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل حال أو عمل يشغلنا عنك . ويدل عليه قوله - تعالى - : ( ثم تاب عليهم ليتوبوا ) ( 9 : 118 ) أو المعنى : اقبل توبتنا ، ومنه الحديث : ( ( ويتوب الله على من تاب ) ) وتاب - بالمثناة - كثاب ( بالمثلثة ) ومعناه : رجع . ويقال : تاب العبد : إلى ربه أي رجع [ ص: 388 ] إليه ؛ لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله أي عن طريق دينه وموجبات رضوانه ، ويقال : تاب الله على العبد ؛ لأن التوبة من الله تتضمن معنى الرحمة والعطف ؛ كأن الرحمة الإلهية تنحرف عن المذنب باقترافه أسباب العقوبة ، فإذا تاب عادت إليه ، وعطف ربه عليه ، والتوبة تختلف باختلاف درجات الناس ، فعبدك يتوب إليك من ترك ما أمرته بفعله أو فعل ما أمرته بتركه ، وصديقك يتوب إليك ويعتذر إذا هو قصر في عمل لك فيه فائدة عما في إمكانه واستطاعته ، وولدك يتوب إذا قصر في أدب من الآداب التي ترشده إليها ؛ ليكون في نفسه عزيزا كريما ، وكذلك تختلف توبات التائبين إلى الله - تعالى - باختلاف درجاتهم في معرفته ، وفهم أسرار شريعته ، فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله - تعالى - وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها ، وإذا تابوا من عمل سيئ فإنما يتوبون منها ، وخواص المؤمنين يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال ، ولكل عمل صالح أثرا فيها يقربها من الله وصفاته ، فالتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله - تعالى - ، فهي إذا قصرت فيها تتوب ، وإذا شمرت لا تأمن النقائص والعيوب ، ويختلف اتهام هؤلاء الأبرار لأنفسهم باختلاف معرفتهم بصفات النفس ، وما يعرض لها من الآفات في سيرها ، ومعرفتهم بكمال الله جل جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه ؛ ولذلك قال بعض العارفين : ( ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ) ومن هنا نفهم معنى التوبة التي طلبها إبراهيم وإسماعيل - عليهما وعلى آلهما الصلاة والتسليم - ( إنك أنت التواب الرحيم ) أي إنك أنت وحدك الكثير التوب على عبادك - وإن كثر تحولهم عن سبيلك - بتوفيقهم للتوبة إليك وقبول توبتهم منهم ، الرحيم بالتائبين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية