الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم إنه تعالى بعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة بقوله : ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) على سنة القرآن في الجمع بينهما ، أي إنما توعدون من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مرد له ، وما أنتم بمعجزين لله بهرب ولا منع مما يريد ، فهو قادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم . وهذا برهان جلي كرر في القرآن مرارا . وقد قرب العلم في هذا العصر أمر البعث من العقول . بما قرره من كون كل ما في العالم ثابت أصله لا يزول ، وإنما هلاك الأشياء وفناؤها عبارة عن تحلل موادها وتفرقها ، وبما أثبته من تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء ، بل تصدى بعض علماء الألمان لإيجاد البشر بطريقة علمية صناعية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة ، وزعم أنه يمكن باتخاذ وسائل أخرى لتغذية المضغة في حرارة كحرارة الرحم أن تتولد فيها الأعضاء حتى تكون إنسانا تاما . وقد بين تجربته في ذلك وما أرناه من النظريات لإتمام العمل بإيجاد معامل لإيجاد الناس كمعامل التفريخ لإيجاد الدجاج في خطاب قرأه على طائفة من أشهر الأطباء وعلماء الكون فأعجبوا بنظرياته ، ولم ينكر أحد منهم إمكان ذلك ، وإنما ينكر الكثير وصول العلم البشري إلى إخراجه من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل . وإن المخترع الشهير إديصون أكبر علماء الكهرباء يحاول اختراع آلة كهربائية لأجل اتصال الناس بأرواح من يموت واستفادتهم منهم إن كان ذلك مما تعنى الأرواح به بعد الموت . فيكون هذا هو الذي يبين حقيقة ما يدعيه الروحيون من رؤية من يسمونهم الوسطاء للأرواح وتجسدها وتلقيهم عنها هل هو صحيح كما يقولون أو خداع كما يقول المنكرون عليهم ؟ وغرضنا من ذكر هذا أن أمثال هذا العالم المخترع الكبير يرى أن ذلك جائز ممكن ، وإن لم يثبت عنده أنه وقع [ ص: 103 ] بالفعل . فأين هذا ممن يكفرون بالبعث تقليدا لأمثال هؤلاء لظنهم أنهم يعدون هذا محالا لا يمكن تحققه . وإذا كان هذا جائزا ويرى أكبر علماء المادة أنه يمكن وصولهم إليه فعلا فهل يعجز عنه خالق البشر وكل شيء ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ) ( 41 : 53 : 54 ) . هذا وإن كلمة ( توعدون ) مضارع مجهول لوعد الثلاثي الذي غلب استعماله في الخير والنفع ، وهو في أصل اللغة وفي استعمال القرآن شامل لهما - ولأوعد الرباعي الخاص استعماله في الشر أو الضر . ورجح الثاني في الآية لأن الخطاب في إنذار الكافرين ونفي الإعجاز فيه للتهديد . وهو ظاهر ما جرى عليه جمهور المفسرين قال " الرازي " وفيه احتمال آخر ، وهو أن الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب . وأما الوعيد فهو مخصوص بالإخبار عن العقاب ، فقوله : ( إن ما توعدون لآت ) يعني كل ما تعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك . ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال : ( وما أنتم بمعجزين ) يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا . فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيا ، ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله : ( وما أنتم بمعجزين ) وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب اهـ .

                          ونقول : إن هذا يصلح أن يكون من الأوجه التي أوردها العلامة ابن القيم في ترجيح فناء النار . ولكننا نراه ضعيفا وإن كنا نقول بأن جانب الرحمة والإحسان سابق وغالب في أفعال الله تعالى في الدنيا والآخرة ، ووجه ضعفه أن المقام مقام الوعيد والتهديد للكفار ، وأن اللفظ ليس نصا في الوعيد ، كما أن الوعد ليس خاصا بالثواب ، كما تقدم ومن استعماله في العقاب قوله تعالى : ( قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا ) ( 22 : 72 ) وقوله : ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ) ( 22 : 47 ) . وقد ختم الله هذا الوعيد والتهديد بقوله لرسوله : ( قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) في هذا النداء ضرب من الاستمالة للكفار الذين خوطبوا بالدعوة أولا ، بما يذكرهم بأنهم قوم الرسول الذين يحبهم ويحرص على خيرهم ومنفعتهم بباعث الفطرة والتربية والمنافع المشتركة ، وقد كانت النعرة القومية عند العرب أقوى منها عند المعروف حالهم اليوم من سائر الأمم ، فكان نداؤهم بقوله : " يا قومي " جديرا بأن يحرك هذه العاطفة في قلوبهم فتحمل المستعد على الإصغاء لما يقول والتأمل فيه ، وقد أمر الله تعالى رسوله بمثل هذا في آخر سورة " هود " وأواسط [ ص: 104 ] سورة " الزمر " وحكي مثله عن شعيب عليهما السلام . والمكانة في اللغة حسية وهي المكان الذي يتبوأه الإنسان ، ومعنوية وهي الحال النفسية أو الاجتماعية التي تكون فيها . والمعنى اعملوا على مكانتكم وشاكلتكم التي أنتم عليها . إني عامل على مكانتي وشاكلتي التي هداني ربي إليها وأقامني فيها . فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار بتأثير عمله . نبههم بذلك إلى الاستدلال العلمي الاجتماعي في ترتب أحوال الأمم على أعمالها المنبعثة على عقائدها وصفاتها النفسية ليستدلوا به ، ثم صرح لهم بما يرشدهم إلى تلك العاقبة كما سنفصله .

                          وقال الزمخشري في الكشاف : المكانة تكون مصدرا . يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، وبمعنى المكان يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة . وقوله : ( اعملوا على مكانتكم ) يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : على مكانتك يا فلان : أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ( إني عامل ) على مكانتي التي أنا عليها . المعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ( فسوف تعلمون ) أينا تكون له العاقبة المحمودة . وطريقة هذا الأمر طريقة قوله : ( اعملوا ما شئتم ) ( 41 : 40 ) وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتقصى عنه ويعمل بخلافه اهـ .

                          وقد أشار فيه إلى ترجيح كون قوله تعالى : ( من تكون له عاقبة الدار ) استفهاما كقوله : ( لنعلم أي الحزبين أحصى ) ( 18 : 12 ) إلخ . ثم بينه وذكر فيه وجها آخر وهو أن ( من ) بمعنى الذي ، أي فسوف تعرفون الفريق الذي تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار ( الدنيا ) لها . قال : وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعيد والوثوق بأن المنذر ( بكسر الذال ) محق ، والمنذر ( بفتح الذال ) مبطل اهـ .

                          وأقول : إن غاية هذا الإنذار وروحه الإحالة على المستقبل في صدق وعد الله لرسوله بنصره ، ووعيده لأعدائه بقهرهم في الدنيا إذ كان هذا شيئا لا بد أن يراه جمهور المخاطبين بأعينهم فيكون حجة على صدق وعده ووعيده في أمر الآخرة إذ لا فرق بينهما في كون الإخبار بهما من الإنباء بالغيب ، ولا في السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه هي الحسنى في الدنيا والآخرة وجعل عاقبة من كفر به وناوأه هي السوءى . وقد أشار إلى هذا السبب بفاصلة الآية : ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له في ألوهيته بالتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى ، أو فيما لا يطلب إلا منه وهو كل ما أعيت المرء أسبابه أو كانت مجهولة عنده ، فيجب أن يتوجه إليه ويدعى في هذا وحده . وأما [ ص: 105 ] ما عرف سببه فيطلب من طريق السبب ، مع العلم بأن خالق الأسباب ومسخرها هو الله خالق كل شيء : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( 31 : 13 ) - فهذا شر الظلم وأشده إفسادا للعقول والآداب والأعمال - فيلزمه إذا سائر أنواع الظلم الحقيقي والإضافي . وقد تقدم شرح هذا المعنى في تفسير : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( : 82 ) من هذه السورة . وإذا كان فلاح الظالمين لأنفسهم وللناس بالأولى منتفيا بشرع الله وسنته العادلة ، انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل الذين يقومون بحقوق الله وحقوق أنفسهم ومن يرتبط معهم في شئون الحياة ، وهذا لا يكمل إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين الصالحين ، ألم تر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه أولا كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به ؟ ثم على سائر مشركي العرب ، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا وأعظمها ملكا وأرقاها نظاما كالرومان والفرس ؟ ثم نصر من بعدهم من المسلمين من كل أمة وشعب على من ناوأهم وقاتلهم من أهل الشرق والغرب في الحروب الصليبية والفتوح العثمانية وغيرها بقدر حظهم من اتباع ما جاء به من الحق والعدل . فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وصار حظهم من هداية دينهم نحوا مما كان من حظ أهل الكتاب قبلهم من هداية رسلهم أو أقل ، ولم يعد لهم مزية ثابتة في هذا السبب المعنوي للنصر والفلاح ، بل انحصر الفوز في الأسباب المادية والفنية ، وسائر الأسباب المعنوية ، كالصبر والثبات . والعدل والنظام ونرى كثيرا من الجاهلين بالإسلام يقولون : ما بال المسلمين قد أضاعوا ملكهم إذا كان الله قد وعد بنصرهم ؟ وجوابه أن الله تعالى لم يعد قط بنصر من يسمون مسلمين كيفما كانت حالهم . وإنما وعد بنصر من ينصره ويقيم ما شرعه من الحق والعدل ، وبإهلاك الظالمين مهما تكن أسماؤهم وألقابهم . إذا نازعهم البقاء من هم أقرب إلى الحق والعدل أو النظام منهم ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ( 14 : 13 ، 14 ) وقد سبق تفصيل لهذا البحث غير مرة .

                          قرأ أبو بكر عن عاصم ( مكاناتكم ) بالجمع في كل القرآن والباقون بالإفراد ، والأصل في المكانة ألا تجمع لأنها مصدر ، ونكتة جمعها في هذه القراءة إفادة أن للكفار مكانات متفاوتة ، لتعدد الباطل ووحدة الحق . وقرأ حمزة والكسائي ( من يكون له عاقبة الدار ) بالتحتية والباقون ( تكون ) بالفوقية وذلك أن تأنيث العاقبة لفظي غير حقيقي ، وقد فصل بينه وبين العامل فحسن تذكير الفعل كتأنيثه ، وفي حال الفصل يجوز تذكير العامل وإن كان المعمول مؤنثا حقيقيا .

                          ومن مباحث البلاغة اقتران سوف بالفاء هنا وفي سورة الزمر لأنها في جواب الشرط الذي يقتضيه المقام وتركت الفاء في آية هود ( 11 : 93 ) لأنها في جواب شعيب لقومه [ ص: 106 ] عن قولهم : ( ما نفقه كثيرا مما تقول ) ( 11 : 91 ) إلخ . فهو إخبار لهم بأنهم سوف يعلمون عاقبة ما قالوا إنهم لا يفقهون . انتهى ملخصا من درة التنزيل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية