الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ومنها : أن الله سبحانه أطلق الرقبة هاهنا ولم يقيدها بالإيمان وقيدها في كفارة القتل بالإيمان ، فاختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل على قولين : فشرطه الشافعي ، ومالك ، وأحمد ، في ظاهر مذهبه ، ولم يشترطه أبو [ ص: 308 ] حنيفة ، ولا أهل الظاهر ، والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا :

لو كان شرطا لبينه الله سبحانه ، كما بينه في كفارة القتل ، بل يطلق ما أطلقه ، ويقيد ما قيده فيعمل بالمطلق والمقيد. وزادت الحنفية أن اشتراط الإيمان زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن ، أو خبر متواتر .

قال الآخرون : - واللفظ للشافعي - شرط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة ، كما شرط العدل في الشهادة ، وأطلق الشهود في مواضع ، فاستدللنا به على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط ، وإنما رد الله أموال المسلمين على المسلمين ، لا على المشركين ، وفرض الله الصدقات ، فلم تجز إلا للمؤمنين ، فكذلك ما فرض من الرقاب لا يجوز إلا لمؤمن ، فاستدل الشافعي بأن لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد ، إذا كان من جنسه ، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم .

وهاهنا أمران

أحدهما : أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس .

الثاني : أنه إنما يحمل عليه بشرطين : أحدهما : اتحاد الحكم . والثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد . فإن كان بين أصلين مختلفين ، لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل يعينه .

قال الشافعي : ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة ، وهذا بناء على هذا الأصل ، وأن النذر محمول على واجب الشرع ، وواجب العتق ، لا يتأدى إلا بعتق المسلم . ومما يدل على هذا أن ( النبي صلى الله عليه وسلم قال : لمن استفتى في عتق رقبة منذورة ائتني بها ، فسألها أين الله ؟ فقالت : في السماء ، فقال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال : أعتقها فإنها مؤمنة ) قال الشافعي : فلما وصفت الإيمان ، أمر بعتقها. انتهى .

[ ص: 309 ] وهذا ظاهر جدا أن العتق المأمور به شرعا لا يجزئ إلا في رقبة مؤمنة ، وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة ، فإن الأعم متى كان علة للحكم كان الأخص عديم التأثير .

وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه ، وتخليصه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق ، ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع ، محبوب له ، فلا يجوز إلغاؤه ، وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده ، وتفريغه لعبادة الصليب ، أو الشمس والقمر والنار ، وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل ، وأحال ما سكت عنه على بيانه ، كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين ، وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه ، وكذلك غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها ، وهي أكثر من أن تذكر ، فمنها : قوله تعالى فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) [ النساء : 114 ] وفي موضع آخر ، بل مواضع يعلق الأجر بنفس العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه ، وكذلك قوله تعالى : فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ) [ الأنبياء : 94 ] ، وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان ، وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية