الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) : خطاب لأهل مكة يقول : إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم ، فبدأ أولا بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيها لآرائهم ، وأثبت ثانيا من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم .

وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي دلالة على البدء وهو الخلق وعلى الإعادة ، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم ، وكثيرا ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة ، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت ، وإرهاب النفوس به ، وصيرورتهم إلى الله بعده ، فهو الجدير بأن يخاف ويتقى ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها .

( وأمرت أن أكون من المؤمنين ) : لما ذكر أنه يعبد الله وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح ، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له ، المفردون له بالعبادة ، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة ، وطابق الباطن الظاهر . قال الزمخشري : يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب في من العقل ، وبما أوحى إلي في كتابه .

وقيل معناه : إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه ، أأثبت أم أتركه وأوافقكم ؟ فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ، ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) ( وأمرت أن أكون ) : أصله بأن أكون ، فحذف الجار وهذا الحذف [ ص: 196 ] يحتمل أن يكون من الحذف المطرد ، الذي هو حذف الحروف الجارة مع أن وأن ، وأن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ( فاصدع بما تؤمر ) انتهى .

يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله : أمرتك الخير ، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعا لا قياسا وهي : اختار واستغفر وأمر وسمى ولبى ودعا بمعنى : سمى وزوج وصدق خلافا لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني ، حيث يعني الحرف ، وموضع الحذف نحو : بريت القلم بالسكين ، فيجيز السكين بالنصب . وجواب إن كنتم في شك قوله : فلا أعبد ، والتقدير : فأنا لا أعبد ، لأن الفعل المنفي بلا إذا وقع جوابا انجزم ، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ . وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله .

( ومن عاد فينتقم الله منه ) ، أي : فهو ينتقم الله منه . وتضمن قوله : ( فلا أعبد ) معنى : فأنا مخالفكم . ( وأن أقم ) : يحتمل أن تكون معمولة لقوله : ( وأمرت ) ، مراعى فيها المعنى . لأن معنى قوله : ( أن أكون ) : كن من المؤمنين ، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر . وقد أجاز ذلك النحويون ، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة ، من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو . ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي : وأوحي إلي أن أقم ، فاحتمل أن تكون مصدرية ، واحتمل أن تكون حرف تفسير ، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول ، وإضمار الفعل أولى ، ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان : ( وأن أقم ) عطفا على أن أكون ، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى . والوجه هنا المنحى والمقصد ، أي : استقم للدين ولا تحد عنه ، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين . و ( حنيفا ) : حال من الضمير في أقم ، أو من المفعول . وأجاز الزمخشري أن تكون حالا من الدين . ( ولا تدع ) : يحتمل أن يكون استئناف نهي ، ويحتمل أن يكون معطوفا على أقم ، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية ، وكونها حرف تفسير .

وإذا كان دعاء الأصنام منهيا عنه فأحرى أن ينهى عن عبادتها ( فإن فعلت ) كنى بالفعل عن الدعاء إيجازا أي : فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك . وجواب الشرط فإنك وخبرها ، وتوسطت إذا بين اسم إن والخبر ، ورتبتها بعد الخبر ، لكن روعي في ذلك الفاصلة . قال الحوفي : الفاء جواب الشرط ، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا : إذا كان ذلك ، هذا تفسير المعنى لا يجيء على معنى الجواب ، انتهى .

وقال الزمخشري : إذا جواب الشرط ، وجواب لجواب مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان . وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، ( إن الشرك لظلم عظيم ) انتهى .

وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل ، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعا في سورة البقرة . ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع ، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله ، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك ، وأتى في الضر بلفظ المس ، وفي الخير بلفظ الإرادة ، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية ، لأن مقابل الضر النفع ، ومقابل الخير الشر ، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر ، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع ، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة ، وأنص على الإصابة وأنسب لقوله : ( فلا كاشف له إلا هو ) ، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير ، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة . وجاء جواب ( وإن يمسسك ) بنفي عام وإيجاب ، وجاء جواب ( وإن يردك ) بنفي عام ، لأن ما أراده لا يرده راد لا هو ولا غيره ، لأن إرادته قديمة لا تتغير ، فلذلك لم يجيء التركيب فلا راد له إلا هو .

والمس من حيث هو فعل هو صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة ، فإنها صفة ذات وجاء ( فلا راد لفضله ) : سمى الخير فضلا إشعارا بأن الخيور [ ص: 197 ] من الله تعالى ، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل . ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال : ( يصيب به من يشاء من عباده ) ، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما : الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب ، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه .

ولما تقدم قوله : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) : فأخر الضر ، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر . وأيضا فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين ، والنفع لا يرجى منهم ، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدئ بها .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني ؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعا : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير ، وأنه لا راد لما يريد منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام : بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الإنجاز ، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله : يصيب به من يشاء من عباده ، والمراد بالمشيئة : المصلحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية