الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 5 ) باب صفة الجنة وأهلها

الفصل الأول

5612 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . واقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . متفق عليه .

التالي السابق


( 5 ) باب صفة الجنة وأهلها

الجنة : البستان من الشجر المتكاثف المطل بالتفاف أغصانه ، والتركيب دائر على معنى الستر في الجنة والجنة والجنة والجنون ونحوها ، فكأن الجنة لتكاثفها وتظللها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها . وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان ، أو لكونها مستورة عن أعين الناس ؛ ليكون الإيمان بالغيب لا بالعيان ، أو لأن الله تعالى أخفى من قرة الأعين لأهلها الأعيان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الفصل الأول

5612 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( قال الله تعالى : أعددت ) أي : هيأت ( لعبادي الصالحين ) : بفتح ياء المتكلم ويسكن ( ما لا عين رأت ) ، قال الطيبي - رحمه الله - : ( ما ) هنا إما موصولة أو موصوفة ، وعين وقعت في سياق النفي فأفاد الاستغراق ، والمعنى ما رأت العيون كلهن ولا عين واحدة منهن ، والأسلوب من باب قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ، فيحتمل نفي الرؤية والعين معا ، أو نفي الرؤية فحسب ، أي : لا رؤية ولا عين ، أو لا رؤية ، وعلى الأول الغرض منه العين ، وبها ضمت إليه الرؤية ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه ، وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة وعكسه ( ولا أذن ) : بضمتين ويسكن الذال ( سمعت ، ولا خطر ) أي : وقع ( على قلب بشر ) . قال الطيبي - رحمه الله - : هو من باب قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم أي : لا قلب ولا خطور ، أو لا خطورا ، فعلى الأول لهم قلب مخطر ، فجعل انتفاء الصفة دليلا على انتفاء الذات أي : إذا لم يحصل ثمرة القلب وهو الإخطار فلا قلب ، كقوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " .

فإن قلت : لم خص البشر هنا دون القرينتين السابقتين ؟ قلت : لأنهم هم الذين ينتفعون بما أعد لهم ويهتمون بشأنه ويخطرون ببالهم ، بخلاف الملائكة ، والحديث كالتفصيل للآية ، فإنها نفت العلم ، والحديث نفى طريق حصوله . ( واقرءوا ) : ظاهره أنه مرفوع ، ويؤيده العاطف ، والأظهر أنه موقوف ؛ لقوله : إن شئتم أي : أردتم الاستشهاد والاعتضاد فلا تعلم : في محل النصب على أنه مفعول اقرءوا أو التقدير آية فلا تعلم : نفس أي : مقتضى من الملائكة وغيرهم ما أخفي لهم : قرأ الجمهور " أخفي " بتحريك الياء على البناء للمفعول ، وقرأ حمزة بسكونها على أنه مضارع مسند للمتكلم ، ويؤيده قراءة ابن مسعود " نخفي " بنون العظمة ، وقرئ " أخفى " بفتح أوله ، والفاعل هو الله تعالى : من قرة أعين ، الكشاف : لا تعلم النفوس كلهن ولا نفس واحدة منهم لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقر به عيونهم ، ولا مزيد على هذه النعمة ولا مطمح وراءهما . وفي " شرح السنة " : يقال : أقر الله عينك ، ومعناه برد الله دمعتها ؛ لأن دمعة الفرح باردة ، حكاه الأصمعي . وقال غيره : معناه بلغك الله أمنيتك حتى ترضى به نفسك وتقر عينك ولا تستشرف إلى غيره .

قال الطيبي - رحمه الله - : فعلى هذا الأول من القرة بمعنى البرد ، والثاني من القرار ، وفي قوله : أعددت دليل على أن الجنة مخلوقة ، ويعضده سكنى آدم وحواء الجنة ، ولمحبتها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام ، كالنجم والثريا والكتاب ونحوها ، وذلك أن الجنة كانت تطلق على كل بستان متكاثف أغصان أشجارها ، ثم غلبت [ ص: 3576 ] على دار الثواب ، وإنما قلنا : اللاحقة ؛ للإعلام لكونها غير لازمة للام ، وتحقيق القول أنها منقول شرعية على سبيل التغليب ، وإنما تغلب إذا كانت موجودة معهودة ، وكذلك اسم النار منقولة لدار العقاب على سبيل الغلبة ، وإن اشتملت على الزمهرير والمهل والضريع وغير ذلك ، ولولا ذلك لما كان يغني عن طلب القصور والحور والولدان بالجنة ، ولا عن طلب الوقاية من الزمهرير والمهل والضريع عن مطلق النار ( متفق عليه ) ، وكذا رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة من غير قوله : اقرءوا إن شئتم . . . إلى آخره ، على ما في الجامع فهو يؤيد كونه موقوفا . وروى الطبراني عن سهل بن سعد مرفوعا ولفظه : ( إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد ) . ورواه الطبراني في الأوسط ، والبزار عن أبي سعيد ولفظه : ( في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) . وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ، قال : ( لما خلق الله تعالى جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) . ثم قال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ، هذا وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - : سبب هذا الحديث أن موسى - عليه الصلاة والسلام - سأل ربه : من أعظم أهل الجنة منزلة ؟ فقال : غرزت كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلا عين رأت . . . وإلى آخره . أخرجه مسلم والترمذي ، انتهى . ولا يخفى أن الضمير في " ما أخفي لهم " لقوم خاص . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون والمراد المتهجدون والأوابون ، ولما أخفوا أعمالهم عن أعين العباد جوزوا بإخفاء الله تعالى لهم ما أراد لهم من الإعداد جزاء وفاقا على حسب ما وفقوا من الإمداد والإسعاد .




الخدمات العلمية