الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) هذا ضرب آخر من أحكامهم السخيفة في التحريم والتحليل ، وهو خاص بما في بطون بعض الأنعام من اللبن والأجنة ، روي أن المراد بالأنعام هنا البحائر وحدها أو هي والسوائب ، كانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث ، وكانت إذا ولدت ذكرا حيا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث ، وإذا ولدت أنثى تركوها لأجل النتاج . وبعض مفسري السلف لم يقيدوا هذه الأنعام بالبحائر والسوائب ، فيمكن حمل المطلق على المقيد ، يحتمل أنهم كانوا يقولون ذلك في أنعام أخرى يعينونها بغير وصف البحيرة أي مشقوقة الأذن ، والسائبة التي تسيب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد . وعن الشعبي وعكرمة وقتادة وغيرهم أن البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء . فإن قيل : إن الآية في شأن ما في بطون هذه الأنعام لا في نفسها فلا يصح إدخال قول هؤلاء في تفسيرها - قلنا يصح ذلك بل هو المتبادر من بعض القراءات .

                          قرأ ابن عامر " وإن تكن " بالتاء " و ميتة " بالرفع ، وابن كثير : " يكن " بالياء و " ميتة " بالرفع ، وأبو بكر عن عاصم " يكن " بالياء و " ميتة " بالنصب . فأما الأول فليس في قراءته إلا تأنيث الفعل " تكن " لتأنيث خبره ، وأما قراءة ابن كثير فقالوا : إن فيها حذف الخبر ، والتقدير : وإن يكن لهم ميتة - أو - وإن يكن هناك ميتة ، وتذكير الفعل لأن الميتة بمعنى الميت ، وهذا يصدق بتلك الأنعام نفسها وبأجنتها التي في بطونها ومثل ذلك ما إذا جعلت " يكن " بمعنى يوجد أي فعلا تاما . وقالوا في تقدير قراءة عاصم : وإن تكن المذكورة ميتة ، وهو يشمل تلك الأنعام وما في بطونها أيضا . بل قال بعضهم مثل هذا في قراءة الباقين ، ولكن الذي يتبادر إلى ذهن العربي الفصيح من قوله تعالى : ( وإن يكن ميتة ) [ ص: 113 ] بالنصب أن المراد : وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام ميتة . فالفائدة المعنوية في اختلاف القراءات ما ذكرنا وما عداه فاختلاف وجوه جائزة في اللغة .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله : ( خالصة ) فيه وجوه . أحدها : أن التاء فيه للمبالغة في الوصف كراوية وداهية وطاغية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر ، وثانيها : أن المبتدأ وهو ( ما في بطون هذه الأنعام ) مذكر اللفظ مؤنث المعنى لأنه المراد به الأجنة ، فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى - وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية ، والمطر رحمة ، والرخصة نعمة ، ورابعها أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن في الظرف وخبر المبتدأ ( لذكورنا ) .

                          ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) يقال : جزاه كذا وبكذا - أي جعله جزاء له على عمل عمله ، قال تعالى : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ) ( 25 : 75 ) إلخ وقال : ( فذلك نجزيه جهنم ) ( 21 : 29 ) وقال : ( هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ( 10 : 52 ) وقال : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) ( 27 : 90 ) وجعل الجزاء عين العمل قد تكرر في سورة أخرى وقدروا له كلمة جزاء أو ثواب وعقاب بناء على أن العمل هو ما يجازى عليه لا ما يجازى به ، ولكن تعبير الكتاب لا يكون إلا لنكتة عالية في البلاغة ، وهي عندنا الإيذان بأن الجزاء لما كان أثرا لما يحدثه العمل في النفس من تزكية أو تدسية كان كأنه عين العمل ، فإن النفس تنعم أو تعذب بالصفة التي تطبعها فيها الأعمال ، وبهذا يتجلى لك هنا معنى جعل جزاء المفترين على الله في التشريع وصفهم ، ولا سيما إذا جعل الوصف هنا بمعنى الصفة التي هي حالة النفس وصورتها ، وقد بينا هذا المعنى في التفسير مرارا . ومعنى الجملة مع تعليلها : سيجزيهم الله بمقتضى حكمته في الخلق وعلمه بشئونهم وأعمالهم ومناشئها من صفاتهم ، بأن يجعل عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي ، فإن لكل نفس في الآخرة صفات تجعلها في مكان معين من عليين ، أو سجين في أسفل سافلين ، كما أن صفة الجسم السائل الخفيف تقتضي بسنن الله أن يكون فوق الجسم الثقيل كما ترى في الزيت إذا وضع في إناء مع الماء ، وما يعرف الناس من درجات الحرارة في موازينها المعروفة مثال موضح للمراد ، فمنشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها العمل عليها . وإذا جعل الوصف مصدرا فلا بد من تقدير معموله كأن يقال سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء في العبادة والتشريع ، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ( 16 : 116 ) الآية .

                          [ ص: 114 ] قال الزمخشري في مادة وصف الأساس : ومن المجاز وجهها يصف الحسن ، ولسانه يصف الكذب ، وذكر هذه الآية ثم قال : وهذه ناقة تصف الإدلاج . قال الشماخ :


                          إذا ما أدلجت وصفت يداها لها الإدلاج ليلة لا هجوع



                          وفي روح المعاني أن الجملة كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون : وصف كلامه الكذب ، إذا كذب ، وعينه تصف السحر أي ساحرة ، وقده يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق مبالغة حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له : قال المعري :


                          سرى برق المعرة بعد وهن     فبات برامة يصف الملالا



                          ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) حاصل ما أنكر الله تعالى على مشركي العرب في هذا السياق يرجع إلى الأمرين الفظيعين اللذين نعتهما عليهم هذه الآية وحكمت عليهم فيهما حكما حقا وعدلا ، وهو أنهم خسروا بقتل أولادهم وبوأد البنات - الآتي بيانه وغيره - خسرانا عظيما دل عليه حذف مفعول خسروا الدال على العوام في بابه ليتروى السامع فيه ، ويتأمل ما وراء قوادمه من خوافيه ، وذلك أن خسران الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من فوائدهم من العزة والنصرة ، والبر والصلة والفخر والزينة والسرور والغبطة ، كما يستلزم خسران الوالد القاتل لعاطفة الأبوة ورأفتها ، وما يتبع ذلك من القسوة والغلظة والشراسة ، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا ويترتب عليها العقاب في الآخرة ; ولذلك علل هذا الجرم بسفه النفس وهو اضطرابها وحماقتها ، وبالجهل أي عدم العلم بما ينفع ويضر وما يحسن ويقبح .

                          ثم بين بعد هذا أنهم حرموا ما رزقهم الله من الطيبات وهذا سفه وجهل أيضا ولكنه دون ما سبقه من هذه الجهة ; ولذلك اقتصر على تعليله بشر ما فيه من القبح وهو الافتراء على الله بجعله دينا يتقرب به إليه . ثم بين نتيجة الأمرين بأنهم قد ضلوا فيهما ، وما كانوا مهتدين إلى شيء من الحق والصواب من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، ولا من منافع الدنيا ولا من سعادة الآخرة ، فهذه الأعمال أقبح ما كانت عليه العرب من غواية الشرك وقد عاد إلى المسلمين شيء منه بتحريم ما لم يحرم الله وجعله دينا وهم لا يشعرون .

                          أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ) إلى قوله : ( وما كانوا مهتدين ) وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة في الآية قال : نزلت [ ص: 115 ] فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة . كان الرجل يشترط على امرأته أنك تئدين جارية ( أي بنتا ) وتستحيين ( أي تبقين ) أخرى ، فإذا كانت الجارية التي توءد غدا من عند أهله أو راح وقال : أنت علي كأمي ( أي محرمة ) إن رجعت إليك ولم تئديها ، فترسل إلى نسوتها فيحفرن لها حفرة فيتداولنها بينهن فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها ويسوين عليها التراب - أي وهي حية - وهذا هو الوأد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في الآية قال : هذا صنع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية