الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) [ ص: 200 ] قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد : هذه السورة مكية كلها ، وعن ابن عباس : مكية كلها إلا قوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) الآية . وقال مقاتل : مكية إلا قوله : ( فلعلك تارك ) الآية .

وقوله : ( أولئك يؤمنون به ) نزلت في ابن سلام وأصحابه . وقوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) نزلت في نبهان التمار . وكتاب : خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : ( الم ذلك الكتاب ) ، وأحكمت صفة له .

ومعنى الإحكام : نظمه نظما رضيا لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم . وهو الموثق في الترصيف ، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل ، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيما ، فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله : ( الكتاب الحكيم ) وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها ، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

وعن قتادة : أحكمت من الباطل . قال ابن قتيبة : ( أحكمت ) : أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول ، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره على محمد - صلى الله عليه وسلم - فثم على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل .

إذ الإحكام : صفة ذاتية ، والتفصيل : إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب : أجمعه ، محكم : مفصل ، والإحكام : الذي هو ضد النسخ ، والتفصيل : الذي هو خلاف الإجمال ، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك . وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالثواب والعقاب .

وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ، ولكن لا يقتضيه اللفظ . وقيل : فصلت معناه : فسرت ، وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد ، أي : بين ولخص .

وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد بن علي وابن كثير في رواية : ثم ( فصلت ) بفتحتين خفيفتين على لزوم الفعل للآيات . قال صاحب اللوامح : يعني : انفصلت وصدرت . وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس ، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره . قال الزمخشري : وقرئ : ( أحكمت آياته ثم فصلت ) ، أي : أحكمتها أنا ثم فصلتها .

( فإن قلت ) : ما معنى ( ثم ) ؟ ( قلت ) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل ، انتهى . يعني : أن ( ثم ) جاءت لترتيب الإخبار ، لا لترتيب الوقوع في الزمان ، واحتمل ( من لدن ) أن يكون في موضع الصفة .

ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، أجاز أن يكون خبرا بعد خبر . قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت ، أي : من عنده أحكامها وتفصيلها . وفيه طباق حسن ، لأن المعنى : أحكمها حكيم وفصلها ، أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور ، انتهى .

ولا يريد أن ( من لدن ) متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية