الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  244 109 - حدثنا محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تكلم به، قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ستة؛ الأول: محمد بن مقاتل بضم الميم أبو الحسن المروزي، تقدم في باب ما يذكر في المناولة. الثاني: عبد الله بن المبارك . الثالث: سفيان الثوري، وقيل: يحتمل سفيان بن عيينة أيضا؛ لأن عبد الله يروي عنهما، وهما يرويان عن منصور، لكن الظاهر أنه الثوري؛ لأنهم قالوا: أثبت الناس في منصور هو سفيان الثوري . الرابع: منصور بن المعتمر . الخامس: سعد بن عبيدة بضم العين مصغر عبدة، ابن حمزة بالزاي الكوفي، كان يرى رأي الخوارج، ثم تركه، وهو ختن أبي عبد الرحمن السلمي، مات في ولاية ابن هبيرة على الكوفة، وليس في الكتب الستة سعد بن عبيدة سواه. السادس: البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، مر في باب الصلاة من الإيمان.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 188 ] (بيان لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار بصورة الجمع في موضعين، والعنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته ما بين مروزي وكوفي، وخالف إبراهيم بن طهمان أصحاب منصور، فأدخل بين منصور وسعد الحكم بن عتيبة، وانفرد الفريابي بإدخال الأعمش بين الثوري ومنصور .

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري ها هنا عن محمد بن مقاتل، وأخرجه في الدعوات عن مسدد، وأخرجه مسلم في الدعاء عن عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، وعن ابن المثنى، وعن بندار، وأخرجه أبو داود في الأدب عن مسدد، وعن محمد بن عبد الملك، وأخرجه الترمذي في الدعوات عن سفيان بن وكيع، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن بندار، وعن محمد بن عبد الأعلى، وعن محمد بن رافع، وعن عمرو بن علي، وعن قتيبة، وعن محمد بن إسحاق الصغاني .

                                                                                                                                                                                  (بيان لغاته) قوله: " إذا أتيت مضجعك " بفتح الجيم من ضجع يضجع من باب منع يمنع، ويروى "مضجعك" أصله مضتجعك من باب الافتعال، لكن قلبت التاء طاء، والمعنى: إذا أردت أن تأتي مضجعك، فتوضأ كما في قوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله أي إذا أردت القراءة. قوله: " وجهت وجهي إليك " أي استسلمت كذا فسروه، وليس بوجه، والأوجه أن يفسر: أسلمت ذاتي إليك منقادة لك طائعة لحكمك؛ لأن المراد من الوجه الذات. قوله: " وفوضت " من التفويض وهو التسليم. قوله: " وألجأت ظهري إليك " أي أسندت، يقال: لجأت إليه لجأ بالتحريك، وملجأ، والتجأت إليه بمعنى، والموضع أيضا لجأ، وملجأ، وألجأته إلى الشيء اضطررته إليه، والمعنى هنا: توكلت عليك، واعتمدتك في أمري كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده. قوله: " رغبة " أي طمعا في ثوابك. قوله: " ورهبة " أي خوفا من عقابك. قوله: "لا ملجأ " بالهمزة، ويجوز التخفيف. قوله: " ولا منجا " مقصور من نجا ينجو، والمنجى مفعل منه، ويجوز همزه للازدواج. قوله: " على الفطرة " أي على دين الإسلام، وقد تكون الفطرة بمعنى الخلقة، كقوله تعالى: فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وبمعنى السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة"، وقال الطيبي : أي مت على الدين القويم ملة إبراهيم عليه السلام، فإن إبراهيم عليه السلام أسلم واستسلم، وقال: أسلمت لرب العالمين ، (وجاء ربه بقلب سليم).

                                                                                                                                                                                  (ذكر معانيه) قوله: " فتوضأ " وقد روى الشيخان هذا الحديث من طرق عن البراء بن عازب، وليس فيها ذكر الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا قال الترمذي . قوله: " أسلمت وجهي إليك "، وجاء في رواية أخرى "أسلمت نفسي إليك"، والوجه والنفس ها هنا بمعنى الذات، وقال ابن الجوزي : يحتمل أن يراد به الوجه حقيقة، ويحتمل أن يراد به القصد، فكأنه يقول: قصدتك في طلب سلامتي، وقال القرطبي : قيل إن معنى الوجه القصد، والعمل الصالح، وكذلك جاء في رواية: "أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك" فجمع بينهما؛ فدل على تغايرهما، ومعنى: أسلمت سلمت، واستسلمت، أي سلمتها لك؛ إذ لا قدرة لي ولا تدبير بجلب نفع، ولا دفع ضر، فأمرها مفوض إليك، تفعل بها ما تريد، واستسلمت لما تفعل، فلا اعتراض عليك فيه. قوله: " وفوضت أمري إليك " أي رددت أمري إليك، وبرئت من الحول والقوة إلا بك، فاكفني همه، وتولني صلاحه، وقال الطيبي رحمه الله: في هذا النظم غرائب وعجائب لا يعرفها إلا النقاد من أهل البيان. قوله: "أسلمت نفسي" إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه. وقوله: "وجهت وجهي" أي إن ذاته وحقيقته له مخلصة بريئة من النفاق. وقوله: "وفوضت أمري إليك" إشارة إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه، لا مدبر لها غيره. وقوله: "ألجأت ظهري إليك" بعد قوله: "وفوضت أمري" إشارة إلى أن تفويضه أموره التي يفتقر إليها وبها معاشه، وعليها مدار أمره يلتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة. قوله: " آخر ما تكلم " بحذف إحدى التائين، وفي رواية الكشميهني : "من آخر ما يتكلم". قوله: " فرددتها " أي رددت هذه الكلمات لأحفظهن. قوله: " قال لا " أي لا تقل: ورسولك، بل قل: ونبيك الذي أرسلت، وذكروا في هذا أوجها؛ منها أنه أمره أن يجمع بين صفتيه، وهما الرسول والنبي صريحا، وإن كان وصف الرسالة يستلزم وصف النبوة، ومنها أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ زيادة تبيين ليس في [ ص: 189 ] الآخر، وإن كان يرادفه في الظاهر، ومنها أنه لعله أوحي إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده، ومنها أنه ذكره احترازا عمن أرسل من غير نبوة كجبريل، وغيره من الملائكة عليهم السلام؛ لأنهم رسل الأنبياء، ومنها أنه يحتمل أن يكون رده دفعا للتكرار؛ لأنه قال في الأول: "ونبيك الذي أرسلت"، ومنها أن النبي فعيل بمعنى فاعل من النبإ، وهو الخبر؛ لأنه أنبأ عن الله تعالى، أي: أخبر، وقيل: إنه مشتق من النبوة، وهو الشيء المرتفع، ورد النبي صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: " ونبيك الذي أرسلت " بما رد عليه ليختلف اللفظان، ويجمع البنائين معنى الارتفاع والإرسال، ويكون تعديدا للنعمة في الحالتين، وتعظيما للمنة على الوجهين، وقال بعضهم: ولأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول، قلت: هذا غير موجه؛ لأن لفظ النبي كيف يكون أمدح وهو لا يستلزم الرسالة؟ بل لفظ الرسول أمدح؛ لأنه يستلزم النبوة.

                                                                                                                                                                                  (بيان إعرابه) قوله: " فتوضأ " الفاء فيه جواب. قوله: " رغبة ورهبة " منصوبان على المفعول له على طريقة اللف والنشر أي: فوضت أموري إليك رغبة، وألجأت ظهري عن المكاره والشدائد إليك رهبة منك؛ لأنه لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، ويجوز أن يكون انتصابهما على الحال بمعنى راغبا وراهبا، فإن قلت: كيف يتصور أن يكون راغبا وراهبا في حالة واحدة لأنهما شيئان متنافيان؟ قلت: فيه حذف تقديره: راغبا إليك وراهبا منك، فإن قلت: إذا كان التقدير: راهبا منك، كيف استعمل بكلمة "إلى"، والرهبة لا تستعمل إلا بكلمة "من"؟ قلت: "إليك" متعلق برغبة، وأعطى للرهبة حكمها، والعرب تفعل ذلك كثيرا كقول بعضهم:


                                                                                                                                                                                  ورأيت بعلك في الوغى

                                                                                                                                                                                  متقلدا سيفا ورمحا



                                                                                                                                                                                  والرمح لا يتقلد، وكقول الآخر:


                                                                                                                                                                                  علفتها تبنا وماء باردا



                                                                                                                                                                                  والماء لا يعلف. قوله: "لا ملجأ ولا منجا " إعرابهما مثل إعراب عصى، وفي هذا التركيب خمسة أوجه؛ لأنه مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله، والفرق بين نصبه وفتحه بالتنوين، وعند التنوين تسقط الألف، ثم إنهما إن كانا مصدرين يتنازعان في "منك"، وإن كانا مكانين فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا إلا إليك. قوله: " آمنت بكتابك " أي: صدقت أنه كتابك. وقوله: "الذي أنزلت" صفته، وضمير المفعول محذوف، والمراد بالكتاب القرآن، وإنما خصص الكتاب بالصفة لتناوله جميع الكتب المنزلة، فإن قيل: أين العموم ها هنا حتى يجيء التخصيص؟ قلت: المفرد المضاف يفيد العموم؛ لأن المعرف بالإضافة كالمعرف باللام يحتمل الجنس والاستغراق والعهد، فلفظ الكتاب المضاف ها هنا يحتمل لجميع الكتب، ولجنس الكتب، ولبعضها كالقرآن، قالوا: وجميع المعارف كذلك، وقد قال الزمخشري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم في أول البقرة: يجوز أن يكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم كأبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأضرابهم، وأن يكون للجنس متناولا منهم كل من صمم على كفره، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: التحقيق أن الجمع المعرف تعريف الجنس، معناه: جماعة الآحاد، وهي أعم من أن يكون جميع الآحاد أو بعضها، فهو إذا أطلق احتمل العموم، والاستغراق، واحتمل الخصوص، والحمل على واحد منهما يتوقف على القرينة كما في المشترك، هذا ما ذهب إليه الزمخشري، وصاحب المفتاح، ومن تبعهما، وهو خلاف ما ذهب إليه أئمة الأصول.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام) منها ما قاله الخطابي : فيه حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى، وهو قول ابن سيرين وغيره، وكان يذهب هذا المذهب أبو العباس النحوي، ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة في كلامهم إلا وبينها وبين صاحبتها فرق، وإن دق ولطف، كقوله: بلى، ونعم، قلت: هذا الباب فيه خلاف بين المحدثين، وقد عرف في موضعه، ولكن لا حجة في هذا للمانعين؛ لأنه يحتمل الأوجه التي ذكرناها بخلاف غيره، ومنها ما قاله ابن بطال فيه: أن الوضوء عند النوم مندوب إليه مرغوب فيه، وكذلك الدعاء؛ لأنه قد تقبض روحه في نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذي هو من أفضل الأعمال، ثم إن هذا الوضوء مستحب، وإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء؛ لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، ويكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 190 ] ومنها النوم على الشق الأيمن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن، ولأنه أسرع إلى الانتباه، وقال الكرماني : وأقول: وإلى انحدار الطعام كما هو مذكور في الكتب الطبية، قلت: الذي ذكره الأطباء خلاف هذا، فإنهم قالوا: النوم على الأيسر روح للبدن، وأقرب إلى انهضام الطعام، ولكن اتباع السنة أحق وأولى، ومنها ذكر الله تعالى لتكون خاتمة عمله ذلك، اللهم اختم لنا بالخير.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية