الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : قال لن تراني ( الأعراف : 143 ) ، وبقوله تعالى : لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) . فالآيتان دليل عليهم :

[ ص: 213 ] أما الآية الأولى : فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه : أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته - أن يسأل ما لا يجوز عليه ، بل هو عندهم من أعظم المحال .

الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله ، وقال : إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( هود : 46 ) .

الثالث : أنه تعالى قال : لن تراني ، ولم يقل : إني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي . والفرق بين الجوابين ظاهر . ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال : أطعمنيه ، فالجواب الصحيح : أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاما صح أن يقال : إنك لن تأكله . وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى . يوضحه :

الوجه الرابع : وهو قوله : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) . فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار ، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟ الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا ، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ، ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام . والكل عندهم سواء .

السادس : قوله تعالى : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ( الأعراف : 143 ) ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته ؟ ولكن [ ص: 214 ] الله تعالى أعلم موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار ، فالبشر أضعف .

السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز . ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه ، وقد جمعوا بينهما . وأما دعواهم تأييد النفي بـ ( ( لن ) ) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ، ففاسد ، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة ، فكيف إذا أطلقت ؟ قال تعالى : ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ، مع قوله : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ( الزخرف : 77 ) . ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ( يوسف : 80 ) . فثبت أن ( ( لن ) ) لا تقتضي النفي المؤبد .

قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله تعالى :

ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو : أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم ، المتضمن كمال القيومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء ، المتضمن كمال القدرة ، [ ص: 215 ] ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير ، المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره ، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه ، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم ، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه ، المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل ، المتضمن لكمال ذاته وصفاته . ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه ، فإن المعنى : أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به ، فقوله : لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) ، يدل على كمال عظمته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى : فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا ( الشعراء : 61 - 62 ) ، فلم ينف موسى الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية ، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية . بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية