الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( مسألة ) إن أرسلت الماشية بالنهار للرعي أو انفلتت فأتلفت فلا ضمان ، وإن كان صاحبها معها وهو يقدر على منعها فلم يمنعها ضمن ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما ، وإن انفلتت بالليل ، وأرسلها مع قدرته على منعها ضمن ، وقاله الشافعي رضي الله عنه في الزرع وفي غير الزرع اختلاف عندهم وقالوا يضمن أرباب القطط المعتادة للفساد ليلا أفسدت أو نهارا ، وإن خرج الكلب من داره فجرح ضمن أو الداخل بإذن فوجهان أو بغير إذن لم يضمن ، وإن أرسل الطير فالتقطت حب الغير لم يضمن ليلا أو نهارا وقال أبو حنيفة : رحمه الله لا ضمان في الزرع ليلا كان أو نهارا .

لنا وجوه الأول قوله تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } الآية ، وجه الدليل أن داود عليه السلام قضى بتسليم الغنم لأرباب الزرع قبالة زرعه وقضى سليمان عليه السلام بدفعها لهم ينتفعون بدرها ونسلها وخراجها حتى يخلف الزرع وينبت [ ص: 187 ] زرع الآخر والنفش رعي الليل والهمل رعي النهار بلا راع . الثاني أنه فرط فيضمن كما لو كان حاضرا . الثالث أنه بالنهار يمكنه التحفظ دون الليل وقد اعتبرتم ذلك في قولكم إن رمت الدابة حصاة كبيرة أصابت إنسانا ضمن الراكب بخلاف الصغيرة لا يمكنه التحفظ منها والتحفظ من الكبيرة بالتنكب عنه وقلتم يضمن ما نفحت بيدها ؛ لأنه يمكنه ردها بلجامها ، ولا يضمن ما أفسدت برجلها وذنبها . احتجوا بوجوه : الأول قوله عليه السلام { جرح العجماء جبار } الثاني القياس على النهار ، وما ذكرتموه من الفرق بالحراسة بالنهار باطل ؛ لأنه لا فرق بين من حفظ ماله فأتلفه إنسان أو أهمله فأتلفه أنه يضمن في الوجهين . الثالث : القياس على جناية الإنسان على نفسه ، وماله وجناية ماله عليه وجنايته على مال أهل الحرب أو أهل الحرب عليه وعكسه جناية صاحب البهيمة . والجواب عن الأول أن الجرح عندنا جبار إنما النزاع في غير الجرح واتفقنا على تضمين السائق والراكب والقائد وعن الثاني أن الفرق المتقدم ، وما ذكرتموه أن إتلاف المال بسبب المالك هاهنا فهو كمن ترك غلامه يصول فيقتل فإنه لا يضمن وعن الثالث أنه قياس مخالف للآية ؛ لأنه بالليل مفرط بالنهار ليس بمفرط ، والجواب عن تلك النقوض أن أحدا منهم ليس من أهل الضمان ، وهاهنا أمكن التضمين .

( سؤال ) قوله تعالى { ففهمناها سليمان } يقتضي أن حكمه كان أقرب للصواب مع أن حكم داود عليه السلام لو وقع في شرعنا أمضيناه ؛ لأن قيمة الزرع يجوز أن [ ص: 188 ] يؤخذ فيها غنم ؛ لأن صاحبها مفلس مثلا أو غير ذلك ، وأما حكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا من بعض القضاة ما أمضيناه ؛ لأنه إيجاب لقيمة مؤجلة ، ولا يلزم ذلك صاحب الحرث ؛ لأن الأصل في القيم الحلول إذا وجبت في الإتلافات ؛ ولأنه إحالة على أعيان لا يجوز بيعا ، وما لا يباع لا يعارض به في القيم فيلزم أحد الأمرين إما أن تكون شريعتنا أتم في المصالح ، وأكمل الشرائع أو يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان عليه السلام وظاهر الآية خلافه وهو موضع مشكل يحتاج للكشف والنظر حتى يفهم المعنى فيه . ووجه الجواب أن المصلحة التي أشار إليها سليمان عليه السلام يجوز أن تكون أتم باعتبار ذلك الزمان بأن تكون مصلحة زمانهم كانت تقتضي أن لا يخرج عين مال الإنسان من يده إما لقلة الأعيان وإما لعدم ضرر الحاجة أو لعظم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان أو لغير ذلك وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتم فيتغير الحكم كما أن النسخ حسن باعتبار اختلاف المصالح في الأزمنة فقاعدة النسخ تشهد لهذا الجواب .

( سؤال ) في قوله تعالى { وكنا لحكمهم شاهدين } المراد بالشهادة هاهنا العلم فما فائدة ذكره ، والتمدح به هاهنا بعيد فإن الله تعالى لا يمتدح بالعلم الجزئي ، وليس السياق سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد المكافأة كقوله تعالى { قد يعلم ما أنتم عليه } { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } ونحوه جوابه أن هذه القصص إنما وردت لتقرير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى [ ص: 189 ] في صدر السورة حكاية عن الكفار { هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } فبسط الله سبحانه القول في هذه القصص ليبين الله تعالى أنه ليس بدعاء من الرسل ، وأنه يفضل من شاء من البشر وغيره ، ولا يخرج شيء عن حكمه ، ولا يفعل ذلك غفلة بل عن علم ولذلك فهم سليمان دون داود عليهما السلام لم يكن عن غفلة بل نحن عالمون فهو إشارة إلى ضبط التصرف ، وإحكامه إلى غير ذلك كما يقول الملك العظيم أعرضت عن زيد ، وأنا عالم بحضوره ، وليس مقصوده التمدح بالعلم بل بإحكام التصرف في ملكه فكذلك هاهنا .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( مسألة ) اختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال . ( القول الأول ) لمالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما أن الضمان على أرباب البهائم فيما أفسدته إن أرسلت بالليل للرعي كما لو كان صاحبها معها وهو يقدر على منعها فلم يمنعها ، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته إن أرسلت لذلك بالنهار كما لو انفلتت فأتلفت قال في التبصرة والقول بنفي الضمان فيما أفسدته نهارا مقيد بقيدين الأول أن يكون معها راع لا يضيع ولا يفرط ، الثاني أن لا يكون ذلك إلا في المواضع التي لا يغيب أهلها عنها فإن انتفى قيد منها فربها ضامن لما أفسدت ، وإذا سقط الضمان عن أرباب المواشي فيما رعته نهارا فضمان ذلك على الراعي إن فرط فإن شذ منها شيء بغير تفريط فلا ضمان . ا هـ ملخصا .

( القول الثاني ) لأبي حنيفة رضي الله عنه أن كل دابة مرسلة فصاحبها لا يضمن ما أفسدته قال الطحاوي وتحقيق مذهبه أنه لا يضمن إذا أرسلها محفوظة فأما إذا لم يرسلها محفوظة فيضمن وعمدة مالك والشافعي وجوه . ( الأول ) قوله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } الآية ، والنفش رعي الليل والهمل رعي النهار ووجه الدليل أن داود عليه السلام قضى بتسليم الغنم لأرباب الزرع قبالة زرعهم وقضى سليمان عليه السلام بدفعها لهم ينتفعون بدرها ونسلها وخراجها حتى يخلف الزرع وينبت زرع [ ص: 212 ] الآخر قال حفيد ابن رشد في بدايته وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا . ا هـ . ( الثاني ) أنه فرط فيضمن كما لو كان حاضرا . ( الثالث ) المرسل عن ابن شهاب أن { ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط بالنهار حفظها ، وأن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها } أي مضمون وجهه أنه بالنهار يمكن التحفظ دون الليل . ( الرابع ) أنكم قد اعتبرتم ذلك في قولكم إن رمت الدابة حصاة كبيرة أصابت إنسانا ضمن الراكب بخلاف الصغيرة فإنه لا يمكنه التحفظ منها والتحفظ من الكبير بالتنكيب عنه وقلتم يضمن ما نفحت بيدها ؛ لأنه يمكنه ردها بلجامها ، ولا يضمن ما أفسدت برجلها وذنبها .

وعمدة أبي حنيفة وجوه . ( الأول ) قوله عليه السلام { جرح العجماء جبار } وجوابه أن الجرح عندنا جبار إنما النزاع في غير الجرح واتفقنا على تضمين السائق والراكب والقائد . ( الثاني ) القياس على النهار ، وما ذكرتموه من الفرق بالحراسة بالنهار باطل ؛ لأنه لا فرق بين من حفظ ماله فأتلفه إنسان أو أهمله فأتلفه أنه يضمن في الوجهين وجوابه أن القياس على النهار لا يصح ؛ لأنا لا نسلم بطلان الفرق المتقدم بالحراسة بالنهار ؛ لأن إتلاف المال هاهنا كمن ترك غلامه يصول فيقتل فإنه لا يضمن ؛ لأنه بسبب المالك ، وأما ما ذكرتموه فليس كذلك . ( الثالث ) القياس على جناية الإنسان على نفسه ، وماله وجناية ماله عليه وجنايته على مال أهل الحرب أو أهل الحرب عليه وعكسه جناية صاحب البهيمة وجوابه أنه قياس مخالف للآية ؛ لأنه بالليل مفرط وبالنهار ليس بمفرط على أن تلك النقوض لا يمكن فيها التضمين ؛ لأن أحدا منهم ليس من أهل الضمان وهاهنا أمكن التضمين .

( القول الثالث ) لليث أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن وعمدته أنه تعد من المرسل ، والأصول على أن على المتعدي الضمان وجوابه أن محل كونه تعديا من المرسل إذا لم يتسبب المالك في الإتلاف ، وإلا فالتعدي من المالك لا من المرسل كما يؤخذ مما تقدم فافهم . ( القول الرابع ) وهو مروي عن عمر رضي الله عنه وجوب الضمان في غير المنفلت ، ولا ضمان في المنفلت ؛ لأنه لا يملك قال في البداية فسبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسمع ومعارضة السماع بعضه لبعض وذلك أن الأصل يعارض قوله عليه السلام { جرح العجماء جبار } ويعارض أيضا التفرقة التي في حديث البراء وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض أيضا قوله عليه السلام جرح إلخ . ا هـ . فافهم . ( تنبيهان الأول ) أن قوله تعالى { ففهمناها سليمان } وإن اقتضى ظاهره أن حكم سليمان عليه السلام كان أقرب للصواب من حكم داود وهو خلاف ما تقتضيه أصول شريعتنا من أن حكم سليمان عليه السلام إيجاب لقيمة مؤجلة ، ولا يلزم ذلك صاحب الحرث ؛ لأن الأصل في القيم الحلول إذا وجبت في الإتلافات ؛ ولأنه إحالة على أعيان لا يجوز بيعها ، وما لا يباع لا يعارض به في القيم فلذا لو وقع حكمه عليه السلام في شرعنا من بعض القضاة ما أمضيناه بخلاف ما لو وقع حكم داود عليه السلام في شرعنا فإننا نمضيه ؛ لأن قيمة الزرع يجوز أن يؤخذ فيها غنم ؛ لأن صاحبها مفلس مثلا أو غير ذلك وحينئذ فيلزم أحد الأمرين إما أن تكون شريعتنا أتم في المصالح ، وأكمل الشرائع أو يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان عليه السلام وهو خلاف ظاهر الآية إلا أنا إذا قلنا أن اختلاف المصالح [ ص: 213 ] في الأزمنة كما اقتضى اعتباره حسن النسخ كذلك يقتضيه هاهنا فيندفع الإشكال وذلك أن المصلحة التي أشار إليها سليمان عليه السلام يجوز أن تكون أتم باعتبار ذلك الزمان بأن تكون مصلحة زمانهم كانت تقتضي أن لا يخرج عين مال الإنسان من يده إما لقلة الأعيان ، وإما لعدم ضرر الحاجة أو لعدم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان أو لغير ذلك وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتم فيتغير الحكم بتغير المصلحة .

( التنبيه الثاني ) المراد بالشهادة في قوله تعالى { وكنا لحكمهم شاهدين } العلم لا بمعنى المكافأة كقوله تعالى { قد يعلم ما أنتم عليه } { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } ونحوه ؛ لأن السياق ليس سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد ذلك بل بمعناه وفائدة ذكره لا التمدح به ؛ لأنه تعالى لا يتمدح بالعلم الجزئي بل الفائدة التمدح بأحكام التصرف في ملكه وضبطه وذلك أن هذه القصص إنما وردت لتقرير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى في صدر السورة حكاية عن الكفار { هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } فبسط الله سبحانه القول في هذه القصص ليبين الله تعالى به ليس بدعاء من الرسل وأنه يفضل من شاء من البشر وغيره ، ولا يخرج شيء عن حكمه ، ولا يفعل ذلك غفلة بل عن علم وكذلك فهم سليمان دون داود عليهما السلام لم يكن غفلة بل نحن عالمون فهو إشارة إلى ضبط التصرف وإحكامه فكما أن الملك العظيم إذا قال عرضت عن زيد ، وأنا أعلم بحضوره لم يكن مقصوده التمدح بأعلم بل بإحكام التصرف في ملكه كذلك ههنا ، هذا تهذيب ما في الأصل ، وصححه ابن الشاط مع زيادة من البداية والتبصرة والله أعلم .




الخدمات العلمية