الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر ، واحتج عليه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( حافظوا على الصلوات ) أمر بما في الصلاة من الفعل ، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر ، فمعنى الآية : وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء ، بدليل قوله تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) [ الزمر : 9 ] وهو المعني بالقنوت في صلاة الصبح والوتر ، وهو المفهوم من قولهم : قنت علي فلان ؛ لأن المراد به الدعاء عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : ( قانتين ) أي : مطيعين ، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل ، الدليل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل قنوت في القرآن فهو الطاعة " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله ) [ النساء : 34 ] وقال في كل النساء : ( فالصالحات قانتات ) [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها ، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها ، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزئ ، وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأسا ، لأنه يقال : كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا ، فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل والسلف الصالح ، فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة ، وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : ( قانتين ) ساكتين ، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ، ويسألهم : كم صليتم ؟ كفعل أهل الكتاب ، فنزل الله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : وهو قول مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع ، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ، ولا يعبث بشيء من جسده ، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الخامس : القنوت هو القيام ، واحتجوا عليه بحديث جابر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : " أي الصلاة أفضل ؟ قال طول القنوت " يريد طول القيام ، وهذا القول عندي ضعيف ، وإلا صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين [ ص: 131 ] اللهم إلا أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام ، فحينئذ يصير القنوت مفسرا بالإدامة لا بالقيام .

                                                                                                                                                                                                                                            القول السادس : وهو اختيار علي بن عيسى : أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له ، وهو في الشريعة صار مختصا بالمداومة على طاعة الله تعالى ، والمواظبة على خدمة الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ، ويحتمل أن يكون المراد : وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية