الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني : في الثواب ، قد سبق أن الهبة مقيدة بنفي الثواب ، وإثباته ، ومطلقة ، ومضى الكلام في المقيدة ، وفرعناها على المذهب ، والذي قطع به الجمهور وهو صحتها . وقيل : إنها باطلة إذا أوجبنا الثواب في المطلقة ، لأنه شرط يخالف مقتضاها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 385 ] وأما القسم الثاني : وهي المطلقة ، فينظر ، إن وهب الأعلى للأدنى ، فلا ثواب ، وفي عكسه قولان . أظهرهما عند الجمهور : لا ثواب . والثاني : يجب الثواب ، فعلى هذا ، هل [ هو ] قدر قيمة الموهوب ، أم ما يرضى به الواهب ، أم ما يعد ثوابا لمثله في العادة ، أم يكفي ما يتمول ؟ فيه أربعة أوجه . وقيل : أقوال . أصحها : أولها ، والخيار في جنسه إلى المتهب . فعلى الأصح ، لو اختلف قدر القيمة ، فالاعتبار بقيمة يوم القبض على الأصح . وقيل : بيوم بذل الثواب . ثم إن لم يثب ما يصلح ثوابا ، فللواهب الرجوع إن كان الموهوب بحاله .

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا : ولا يجبر المتهب على الثواب قطعا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن زاد زيادة منفصلة ، رجع فيه دونها . وإن زاد متصلة ، رجع فيه معها على الصحيح . وقيل : للمتهب إمساكه وبذل قيمته بلا زيادة . وإن كان تالفا ، فوجهان . وقيل : قولان منصوصان في القديم . أصحهما : يرجع بقيمته . والثاني : لا شيء له كالأب في هبة ولده . وإن كان ناقصا ، رجع فيه . وفي تغريمه المتهب أرش النقصان الوجهان . وقيل : له ترك العين والمطالبة بكمال القيمة .

                                                                                                                                                                        قلت : وإن كانت جارية قد وطئها المتهب ، رجع الواهب فيها ، ولا مهر على المتهب ، لأنه وطئ ملكه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأما إذا وهب لنظيره ، فالمذهب القطع بأن لا ثواب . وقيل : فيه القولان . وعن صاحب " التقريب " طرد القولين في هبة الأعلى للأدنى ، وهو شاذ .

                                                                                                                                                                        قلت : وحكى صاحب " الإبانة " ، و " البيان " وجها أنه إذا وهب لنظيره ونوى الثواب ، [ ص: 386 ] استحقه ، وإلا ، فقولان . فإن اختلفا في النية ، فأيهما يقبل قوله ؟ وجهان . والمذهب : أنه لا يجب الثواب في جميع الصور . قال المتولي : إذا لم يجب فأعطاه المتهب ثوبا ، كان ذلك ابتداء هبة . حتى لو وهب لابنه فأعطاه الابن ثوابا ، لا ينقطع حق الرجوع ، ولا يجب في الصدقة ثواب بكل حال قطعا ، صرح به البغوي ، وغيره ، وهو ظاهر . وأما الهدية ، فالظاهر أنها كالهبة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأما القسم الثالث : فالمقيدة بالثواب ، وهو إما معلوم ، وإما مجهول . فالحالة الأولى : المعلوم ، فيصح العقد على الأظهر ، ويبطل على قول . فإن صححنا ، فهو بيع على الصحيح . وقيل : هبة . فإن قلنا : هبة ، لم يثبت الخيار ، والشفعة ، ولم يلزم قبل القبض . وإن قلنا : بيع ، ثبتت هذه الأحكام . وهل تثبت عقب العقد ، أم عقب القبض ؟ قولان . أظهرهما : الأول . ولووهبه حليا بشرط الثواب ، أو مطلقا وقلنا : الهبة تقتضي الثواب ، فنص في " حرملة " أنه إن أثابه قبل التفرق بجنسه ، اعتبرت المماثلة . وإن أثابه بعد التفرق بعرض ، صح ، وبالنقد لا يصح ، لأنه صرف ، وهذا تفريع على أنه بيع . وفي " التتمة " أنه لا بأس بشيء من ذلك ، لأنا لم نلحقه بالمعاوضات في اشتراط العلم بالعوض ، وكذا سائر الشروط ، وهذا تفريع على أنه هبة . وحكى الإمام الأول عن الأصحاب ، وأبدى الثاني احتمالا . وخرج على الوجهين ما إذا وهب الأب لابنه بثواب معلوم . فإن جعلنا العقد بيعا ، فلا رجوع ، وإلا ، فله الرجوع . وإذا وجد بالثواب عيبا ، وهو في الذمة ، طالب بسليم . وإن كان معينا ، رجع إلى عين الموهوب إن كان باقيا ، وإلا ، طالب ببدله . واستبعد الإمام مجيء الخلاف أنه بيع أم هبة هنا ، حتى لا يرجع على التقدير الثاني وإن طرده بعضهم . وإذا جعلناه هبة ، فكافأه بدون المشروط إلا أنه قريب ، ففي [ ص: 387 ] " شرح ابن كج " وجهان في أنه هل يجبر على القبول لأن العادة فيه مسامحة ؟ قلت : والأصح أو الصحيح : لا يجبر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحالة الثانية : إذا كان الثواب مجهولا ، فإن قلنا : الهبة لا تقتضي ثوابا ، بطل العقد ، لتعذر تصحيحه بيعا وهبة ، وإن قلنا : تقتضيه ، صح ، وهو تصريح بمقتضى العقد ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وحكى الغزالي وجها : أنه يبطل بناء على أن العوض يلحقه بالبيع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه لو وهب لاثنين بشرط الثواب ، فأثابه أحدهما فقط ، لم يرجع في حصة المثيب ، وأنه لو أثاب أحدهما عن نفسه ، وعن صاحبه ورضي به الواهب ، لم يرجع الواهب على واحد منهما . ثم إن أثاب بغير إذن الشريك ، لم يرجع عليه . وإن أثاب بإذنه ، رجع بالنصف إن أثاب ما يعتاد ثوابا لمثله . فإن زاد ، فمتطوع بالزيادة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        خرج الموهوب مستحقا بعد الثواب ، رجع بما أثاب على الواهب . وإن خرج بعضه مستحقا ، فله الخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب ، وبين أن يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب . وقيل : تبطل الهبة في الكل . وقيل : لا يجيء قول الإبطال هنا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 388 ] فرع

                                                                                                                                                                        قال : وهبتك ببدل ، فقال : بلا بدل ، وقلنا : مطلق الهبة لا يقتضي ثوابا ، فهل المصدق الواهب ، أم المتهب ؟ وجهان ، وبالأول قطع ابن كج .

                                                                                                                                                                        قلت : الثاني أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية