الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم بين تعالى ما حرمه على بني إسرائيل ' " خاصة عقوبة لهم ، لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم ، فكان من الملحق بالمستثنى " في الآية بالعطف عليه ، فإنه بعد نفي تحريم أي طعام على أي طاعم استثنى من هذا العام ما حرمه تحريما عاما مؤبدا على غير المضطر ثم ما حرمه تحريما عارضا على قوم معينين لسبب خاص إلى أن يجيء رسول آخر يبيحه لهم باتباعهم إياه وهو قوله عز وجل : [ ص: 150 ] ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) الذين هادوا هم اليهود من قولهم الآتي في سورة الأعراف : ( إنا هدنا إليك ) ( 7 : 156 ) أي رجعنا وتبنا ، وأصل الهود الرجوع برفق قاله الراغب ، أي وعلى الذين هادوا - دون غيرهم من أتباع الرسل - حرمنا فوق ما ذكر من الأنواع الأربعة كل ذي ظفر إلخ . وقولنا : " دون غيرهم " هو ما يدل عليه تقديم المعمول على عامله . والظفر من الأصابع معروف ، ويكون للإنسان وغيره من طائر وغيره ; ولذلك فسروا المخلب بظفر سباع الوحش والطير ، فالظفر عام والمخلب خاص بما يصيد كالبرثن للسبع ، ومنه قوله في الاستعارة : أنشبت المنية أظفارها في فلان - وفي اللسان عن الليث الظفر ظفر الأصبع وظفر الطائر ، وفيه : وقالوا : الظفر لما لا يصيد والمخلب لما يصيد أي خاص بما يصيد من الطير ثم ذكر الآية وقال : " دخل في ذي الظفر ذوات المناسم من الإبل والنعام لأنها لها كالأظفار . وهذا توجيه لغوي لما روي عن ابن عباس من تفسير كل ذي ظفر بالبعير والنعامة . وظاهر أنه مجاز . وقال مجاهد : هو كل شيء لم تفرج قوائمه من البهائم ، وما انفرج أكلته اليهود . ومثله عن ابن جريج : وذكروا من ذلك الإبل والنعام والورنية والبط والوز وحمار الوحش . ونقل الرازي أن عبد الله بن مسلم قال : إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ، ثم قال : كذلك قال المفسرون ، وقال : وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة . وتعقبه بأنه لا يجوز تسمية الحافر ظفرا ، ولو أراد الله الحافر لذكره ، وجزم بوجوب حمل الظفر على المخالب والبراثن . قال : وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد ; لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس . ثم قال :

                          إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين : ( الأول ) أن قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة ( والثاني ) أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ) فائدة - فثبت أن تحريم السباع وذي المخلب من الطير مختص باليهود فوجب ألا تكون محرمة على المسلمين . وعند هذا نقول : ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطيور ، ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى ، فوجب ألا يكون مقبولا وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة اهـ .

                          وأقول : " إن تضعيفه الحديث مع صحة روايته في الصحيحين وغيرهما إنما هو من [ ص: 151 ] جهة المتن ، وقد قالوا : إن من علامة وضع الحديث مخالفته للقرآن وكل ما هو قطعي ، وهذا إنما يصار إليه إذا تعذر الجمع بين الحديث الظني والقرآن القطعي ، وقد جمعنا بينهما بحمل النهي على الكراهة في حال الاختيار ، وهو مذهب مالك كما تقدم تفصيله .

                          وقد فسروا بهذه الآية قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) ( 4 : 160 ) وعلى هذا تكون ذوات الأنياب من السباع والمخالب من الطير طيبات بالنص . وقد بينا في تفسير هذه الآية من سورة النساء أن التحقيق فيها إبقاء قوله تعالى : ( بظلم ) وقوله ( طيبات ) على نكارتهما ، وإبهامهما ، وأن آية : ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) ( 3 : 93 ) معناها : أن كل الطعام كان حلا لهم ولمن قبلهم من الرسل وأتباعهم كإبراهيم وذريته ، إلا ما حرموا هم على أنفسهم بسبب الظلم الذي ارتكبوه وكان سببا لشديد أحكام التوراة عليهم - وأن ما يروى عن مفسري السلف في تفسير هذه الآية وأمثالها مأخوذ من الإسرائيليات التي كان اليهود يقصونها على المسلمين . وفيها الغث والسمين ، وكان فيهم من يصدق في بيان ما في كتبهم ومن يمين والمحرمات عليهم في التوراة كثيرة مفصلة في سفر اللاويين ، ( الأحبار ) ففي الفصل الحادي عشر منه بيان أن ما يحل لهم من الحيوان هو ذو الأظلاف المشقوقة الذي يجتر دون غيره كالجمل والوبر والأرنب فإنه نجس لعدم انشقاق ظلفه وإن كان يجتر والخنزير لأنه لا يجتر وإن كان مشقوق الظلف - ويدخل في المحرم جميع أنواع السباع كما هو ظاهر - ثم بيان ما يحل من حيوان الماء وهو ما له زعانف . ثم بيان ما يحرم عليهم من الطير وهي النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق على أجناسه وكل غراب على أجناسه والنعامة والظليم والسأف والبازي على أجناسه والبوم والغواص والكركي والبجع والقوق والرخم واللقلق والببغاء على أجناسه والهدهد والخفاش وكل هذه الأنواع ذوات أظافر وأكثرها مما تسمى أظافره مخالب . وهو ما يصيد ويأكل اللحوم . وكل ما حرم عليهم فهو نجس لهم كما صرح به مرارا . ومن المعلوم أن الآية ليست نصا في إحصاء كل ما هو محرم عليهم . ومجموع الآيات يدل على أن كل ما حرم عليهم من غير الأنواع الأربعة التي حرمت على المسلمين كافة فهو من الطيبات . وقد غفل عن الجمع بين الآيات ودلالة جملتها على ما ذكر الفقهاء الذين ينظرون في كل مسألة جزئية على حدتها .

                          ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) قال ابن سيده : الشحم جوهر السمن - أي المادة الدهنية التي يكون بها الحيوان سمينا [ ص: 152 ] وفي معاجم اللغة أن العرب تسمي سنام البعير وبياض البطن شحما ، وشحم شحامة سمن وكثر شحمه فهو شحيم ، ويغلب الشحم في عرفنا على المادة الدهنية البيضاء التي تكون على كرش الحيوان وكليتيه وأمعائه وفيها وفي سائر الجوف ، ولا يطلق على الألية وما على ظاهر اللحم من المادة البيضاء ، وهو تخصيص مولد لا ندري متى حدث . والحوايا جمع حاوية كزاوية وزوايا أو حوية كقضية وقضايا ، وفسرت بالمباعر وبالمرابض وبالمصارين والأمعاء ، والمرابض مجتمع الأمعاء في البطن . قال ابن جريج : إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شحم كان ليس في عظم . والثرب كفلس الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والأمعاء . وقوله : ( إلا ما حملت ظهورهما ) قال ابن عباس : يعني ما علق بالظهر من الشحم . والحوايا : المباعر ( أو ما اختلط بعظم ) قال : الألية إذا اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن . يقولون : قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم إنما حرم عليهم الثروب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم .

                          وقد يقال إن الآية أوجزت أبلغ الإيجاز في بيان ما حرم عليهم من الشحوم وما أحل لهم ، فلم لم يكن من مقتضى الإيجاز أن يكون التعبير : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم إلا كذا وكذا منها ؟ وما نكتة هذا التعبير الخاص فيها ؟ نقول : قد بين ذلك صاحب الكشاف بجعله " كقولك : من زيد أخذت ماله - تريد بالإضافة زيادة الربط ، والمعنى أنه حر‍م عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهي الثروب وشحوم الكلى " اهـ .

                          وأقول : إن المعنى المتبادر الذي تظهر فيه النكتة هو : ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم ، وأما ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فلم يحرم عليهم . فتقديم ذكر البقر والغنم لبيان الحصر ، واختلف في الاستثناء هنا هل هو منقطع أو متصل من الشحوم ، وبنوا عليه أحكاما فيمن يحلف لا يأكل شحما فأكل مما استثني ، والصواب أن مبنى الإيمان على العرف لا على حقيقة مدلول اللغة وكل منهما معروف عند أهله ، وسبب تخصيص البقر والغنم بالحكم هو أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما ، وكان يتخذ من شحمهما المذكور الوقود للرب كما هو مفصل في الفصل الثالث من سفر اللاويين ، وقد صرح فيه بأنه الشحم الذي يغشى الأحشاء والكليتين والألية من عند العصعص ( أو ما اختلط بعظم ) وقال بعد التفصيل في قرابين السلامة من البقر والغنم بقسميه الضأن والمعز ما نصه : " 3 : 16 كل الشحم للرب 17 فريضة في أجيالكم في جميع مساكنكم لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا من الدم " اهـ . [ ص: 153 ] ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) الإشارة إلى التحريم أو الجزاء المأخوذ من فعله ، أي جزيناهم إياه بسبب بغيهم وظلمهم . قال قتادة في تفسير هذه الجملة : إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك وما هو بخبيث ، وقد سبق تفصيل القول في ذلك في تفسير آية ( كل الطعام ) أول الجزء الرابع وتفسير : ( فبظلم من الذين هادوا ) ( 4 : 160 ) في أواخر سورة النساء من أوائل الجزء السادس [ ص49 وما بعدها ج 6 ط الهيئة ] .

                          ولما كان هذا الخبر عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم ، وكان مظنة تكذيب المشركين لعدم إيمانهم بالوحي وجزمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بأعلم منهم بشرع اليهود ، ومظنة تكذيب اليهود إن تحريم الله تعالى ذلك عليهم عقوبة لهم ببغيهم وظلمهم المبين في آيات أخرى قال تعالى بعده : ( وإنا لصادقون ) فأكد حقيقة الخبر وصدق المخبر بـ " إن " والجملة الإسمية المعرفة الطرفين ولام القسم ، أي صادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته ، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء والكذب محال علينا لاستحالة كل نقص على الخالق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية