الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر القبض على عبد الملك بن صالح

وفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس .

وكان سبب ذلك أنه كان له ولد اسمه عبد الرحمن ، وبه كان يكنى ، وكان من رحال الناس ، فسعى بأبيه هو وقمامة كاتب أبيه ، وقالا للرشيد : إنه يطلب الخلافة ، ويطمع فيها . فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع ، وأحضره يوما حين سخط عليه ، وقال له : أكفرا بالنعمة ، وجحودا لجليل المنة والتكرمة ؟

فقال : يا أمير المؤمنين ، لقد بؤت إذا بالندم ، وتعرضت لاستحلال النقم ، وما ذاك إلا بغي حاسدنا ، فنسي فيك مودة القرابة وتقديم الولاية ، إنك يا أمير المؤمنين ، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته ، وأمينه على عترته ، لك عليها فرض الطاعة ، وأداء النصيحة ، ولها عليك العدل في حكمها ، والغفران لذنوبها ، والتثبت في حادثها .

فقال له الرشيد : أتضع [ لي ] من لسانك ، وترفع [ لي ] من جنانك ؟ هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك ، فاسمع كلامه .

فقال عبد الملك : أعطاك ما ليس في عقده ، ولعله لا يقدر أن يعضهني أو يبهتني بما لم يعرفه مني .

فأحضر قمامة فقال له الرشيد : تكلم غير هائب ولا خائف ! فقال : أقول : إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك .

[ ص: 355 ] فقال عبد الملك : كيف لا يكذب علي من خلفي [ وهو ] يبهتني في وجهي ؟

فقال الرشيد : فهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك ، وفساد نيتك ، ولو أردت أن أحتج عليك لم أجد أعدل من هذين الاثنين لك ، فلم تدفعهما عنك ؟

فقال عبد الملك : هو مأمور ، أو عاق مجبور ، فإن كان مأمورا فمعذور ، وإن كان عاقا ففاجر كفور ، أخبر الله - عز وجل - بعداوته ، وحذر منه بقوله : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم فنهض الرشيد وهو يقول : ما أمرك إلا قد وضح ، ولكني لا أعجل ، حتى أعلم الذي يرضي الله - عز وجل - فيك ، فإنه الحكم بيني وبينك .

فقال عبد الملك : رضيت بالله حكما ، وبأمير المؤمنين حاكما ، فإني أعلم أنه لن يؤثر هواه على رضى ربه .

وأحضره الرشيد يوما آخر ، فكان مما قال له : أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

ثم قال : أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع ، وعارضها قد لمع ، وكأني بالوعيد قد أورى زنادا يسطع ، فأقلع عن براجم بلا معاصم ، ورءوس بلا غلاصم ، فمهلا مهلا بني هاشم ، فبي والله سهل لكم الوعر ، وصفا لكم الكدر ، وألقت إليكم الأمور أزمتها ، فنذار لكم نذار قبل حلول داهية ، خبوط باليد ، لبوط بالرجل .

فقال عبد الملك : اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك من رعيته التي استرعاك ، [ ص: 356 ] ولا تجعل الكفر مكان الشكر ، ولا العقاب موضع الثواب ، فقد نخلت لك النصيحة ، ومحضت لك الطاعة ، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم ، وتركت عدوك مشتغلا ، فالله الله ( في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته ، بظن أفصح الكتاب [ لي ] بعضهه ، أو ببغي باغ ينهس اللحم ، ويلغ الدم ، فقد والله سهلت لك الوعور ، وذللت لك الأمور ، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور ، فكم [ من ] ليل تمام فيك كابدته ، ومقام ضيق [ لك ] قمته ، كنت [ فيه ] كما قال أخو بني جعفر بن كلاب - يعني لبيدا - : ومقام ضيق فرجته ببيان ولسان وجدل لو يقوم الفيل أو فياله زل عن مثل مقامي وزحل

فقال له الرشيد : والله لولا إبقائي على بني هاشم لضربت عنقك . ثم أعاده إلى محبسه .

فدخل عبد الله بن مالك على الرشيد ، وكان على شرطته ، فقال له : والله العظيم يا أمير المؤمنين ما علمت عبد الملك إلا ناصحا ، فعلام حبسته ؟ فقال : بلغني عنه ما أوحشني ، ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمين والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه . فقال : أما إذ حبسته ، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه ، ولكن تحبسه محبسا كريما . قال : فإني أفعل . فأمر الفضل بن الربيع أن يمضي إليه ، [ ص: 357 ] وينظر ما يحتاج إليه فيوظفه له ، ففعل .

ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى مات الرشيد ، فأخرجه الأمين واستعمله على الشام ، فأقام بالرقة ، وجعل لمحمد الأمين عهد الله لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا ، فمات قبل الأمين ، وكان ما قال للأمين : إن خفت فالجأ إلي فوالله لأصوننك .

وقال الرشيد يوما لعبد الملك : ما أنت لصالح ! قال : فلمن أنا ؟ قال : لمروان الجعدي . قال : ما أبالي أي الفحلين غلب علي .

وأرسل الرشيد يوما إلى يحيى بن خالد بن برمك : إن عبد الملك أراد الخروج علي ومنازعتي في الملك ، وعلمت ذلك ، فأعلمني ما عندك فيه ، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك .

فقال : والله ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا ، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك ، لأن ملكك كان ملكي ، وسلطانك كان سلطاني ، والخير والشر كان فيه علي ولي ، وكيف يطمع عبد الملك في ذلك مني ، وهل كان إذا فعلت به ذلك ، يفعل معي أكثر من فعلك ؟ وأعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن ، ولكنه كان رجلا محتملا يسرني أن يكون في أهلك مثله ، فوليته لما حمدت أثره ومذهبه ، وملت إليه لأدبه واحتماله .

فلما أتاه الرسول بهذا أعاده عليه فقال له : إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك .

فقال له : أنت مسلط علينا ، فافعل ما أردت . فأخذ الرسول الفضل فأقامه ، فودع أباه وقال له : ألست راضيا عني ؟ قال : بلى ، فرضي الله عنك . ففرق بينهما ثلاثة أيام ، فلما لم يجد عندهما في ذلك شيئا جمعهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية