الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
والكلام عليه من وجوه : أحدها : أن تعلم أن هذا الرجل وشيخه أبا علي من كبار أهل البدع والاعتزال المنكرين لكلام الله تعالى وتكليمه ، فلا يكلم أحدا البتة ، ولا يحاسب عباده يوم القيامة بنفسه وكلامه ، وأن القرآن والكتب السماوية مخلوق من [ ص: 341 ] بعض مخلوقاته ، وليس له صفة تقوم له ، فلا علم له عندهم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ، وأنه لا يقدر على خلق أفعال العباد ، وأنها واقعة منهم بغير اختياره ومشيئته ، وأنه شاء منهم خلافها ، وشاءوا هم خلاف ما شاء ، فغلبت مشيئتهم ، وكان ما شاءوه هم دون ما شاء هو ، فيكون ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون ، وهو خالق عند هذا الضال المضل وعالم مجازا لا حقيقة ، والمجاز يصح نفيه ، فهو إذا عنده لا خالق ولا عالم إلا على وجه المجاز .

فمن هذا خطؤه وضلاله في أصل دينه ومعتقده في ربه وإلهه ، فما الظن بخطئه وضلاله في ألفاظ القرآن ولغة العرب ، فحقيق بمن هذا مبلغ علمه ونهاية فهمه أن يدعي أن أكثر اللغة مجاز ويأتي بذلك الهذيان ، ولكن سنة الله جارية أن يفضح من استهزأ بحزبه وجنده ، وكان الرجل وشيخه في زمن قوة شوكة المعتزلة ، وكانت الدولة دولة رفض واعتزال ، وكان السلطان عضد الدولة ابن بويه ، وله صنف أبو علي ( الإيضاح ) ، وكان الوزير إسماعيل بن عباد معتزليا ، وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد معتزليا ، ( وأول ) من عرف منه تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز هم المعتزلة والجهمية .

وهذا الوجه مقدمة بين يدي رد ما في كلامه من باطل ، فإنه يشتمل على حق وباطل .

الوجه الثاني : أن ما ادعى فيه أنه مجاز دل على المراد منه مطلقا من غير توقفه على قرينة ، وهذا حد الحقيقة عندهم ، فإن المعنى يسبق إلى الفهم من هذا اللفظ بمجرده ، ولا يصح نفيه ، ولا يتوقف على قرينة ، فكيف يكون مجازا ، فإن قال : بل تركيبه مع المسند إليه واتصاله بالمفعول والحال والتمييز والتوابع والاستثناء ونحوها من القرائن التي تدل على المعنى ، قيل له : فلا يخلو كلام مفيد من هذا التركيب البتة ، أفنقول إن الجميع مجاز ، أو النصف مجاز والنصف حقيقة ، فإن قلت في الجميع مجاز ، كنت مبطلا ، رافعا للحقيقة بالكلية ، ومدع على خطاب الله ورسوله وخطاب الأمم أنه كله مجاز لا حقيقة ، ويكفيك هذا جهلا وكذبا ، وإن قلت : بل البعض حقيقة والبعض مجاز قيل لك : فما ضابط ذلك ؟ ولا يمكنك أن تأتي بضابط أبدا ، وقد أغلقت على نفسك باب الحقيقة بالكلية ، فإن كل لفظ تقر بأنه حقيقة يلزمك فيه نظير ما ادعيت أنه مجاز ، ولا شيء أبلغ من خلق الله تعالى وعلم الله ، والله خالق كل شيء ، وقد ادعيت أنه مجاز لا حقيقة ، ولا شيء أظهر من طلوع الشمس على الخلائق عيانا جهرة ، فإذا [ ص: 342 ] رآها الناس وقالوا : طلعت الشمس ، وكان هذا عندك مجازا على أن الشمس لم يحصل منها جميع أفراد طلوع الماضي والحاضر والآتي في آن واحد ، وذلك عندك هو الحقيقة ، فإذا كان هذا كله مجازا عندك فما الظن بغير ذلك من الألفاظ .

الوجه الثالث : أن الفعل لا عموم له ولا دلالة له على وحدة ولا كثرة ولا عموم ولا خصوص ، بل هو دال على القدر المشترك من ذلك كله وهو مطلق الحقيقة ، فإذا أرادوا تقييده بشيء من ذلك أتوا بما يدل على مرادهم .

فيأتون في المرأة بتاء التأنيث نحو ضربت ، وفي المرأتين بلفظ التثنية ، وفي الجمع بما يدل على ذلك ، والجمع حقيقة ، فدعواك إن ضربت موضوع لجميع أفراد الضرب الموهومة التي لا تدخل تحت الحصر كذب على اللغة ، فإن العرب لم تضع الفعل كذلك البتة ولا أفادته به ولا دلت عليه ، وإنما وضعت الفعل بالإخبار عن فعل صدر عن الفاعل ويصدر منه أو يطلبه ، يوضحه :

الوجه الرابع : أن دلالة الماضي والمضارع والأمر على المصدر واحدة ، فلو كان ( ضربت ) موضوعا لجميع أفراد الضرب كلها من أولها إلى آخرها لكان الضرب كذلك ، فيكون موضوعة لفظة اضرب أوقع كل فرد من أفراد الضرب كلها من أولها إلى آخرها الموهومة في جميع الماضي والحاضر والمستقبل إلى ما لا نهاية له ، وأي قرينة على اللغة وأوضاعها أعظم من ذلك ؟ وهذا أمر يقطع العاقل بأن هذا لم يخطر على بال المتكلم ولا السامع ، ولا قصده الواضع أصلا ، ومن نسب الأمر به إلى ذلك فقد نسبه إلى أعظم الجهل والى العجز عن التكلم بالحقيقة ، فإنه لا سبيل له عند هذا القائل إلى التخلص من المجاز والتكلم بالحقيقة البتة ، فإن غاية ما يقدر أن يقال : أوقع فردا من أفراد الضرب على جزء من المضروب ، ومع هذا فلم يخلص عنده لأن أوقع فعل وهو دال عنده على جميع أنواع الإيقاع في الماضي والحاضر والأمر ، يوضحه :

الوجه الخامس : أن هذا يستلزم تعجيز الخالق عن التكلم بالحقيقة أمرا أو خبرا ، فإن أوامره سبحانه كلها بالأفعال وإخباره عن نفسه وخلقه عامة بالأفعال ، وقد صرح هذا بأنها مجاز ، وقد عجز الله بأن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه أو عن أحد من خلقه بلفظ حقيقة ، فإن قوله : ( وأقيموا الصلاة ) ، و ( اتقوا الله ) و ( آمنوا ) و ( واسمعوا ) و ( وجاهدوا ) و ( اصبروا ) و ( واذكروا الله ) و ( فارهبون ) [ ص: 343 ] و ( واخشون ) و ( ادعوني ) وأمثال ذلك عندهم مجاز فلو أراد أن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه أو عن فعله أو عن فعل خلقه بها ، ماذا يقول سبحانه حتى يكون متكلما بالحقيقة ، وكذلك قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم ( قل هو الله أحد ) و ( قل ياأيها الكافرون ) و ( قل أعوذ برب الفلق ) و أضعاف ذلك كله مجاز ، وكذلك في جانب الخبر نحوه ( وإذ قال ربك للملائكة ) و ( قالت الملائكة ) و ( وعلم آدم الأسماء كلها ) وقوله ( إلا إبليس أبى واستكبر ) وأكثر من مائة ألف فعل ومائة ألف خبر ، فإذا كانت هذه مجازا عندك فكيف يصنع من أراد من يتكلم بالحقيقة .

الوجه السادس : قوله : ويدل على انتظامه لجميع جنس المصدر أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل نحو قمت قومة وقومتين ومائة قومة ، وقياما حسنا وقبيحا .

وهذا من أعظم ما يبطل قوله ، فإن العرب وضعته مطلقا غير عام بل صالحا للعمل في الواحد والاثنين ، والكثير والقليل ، وهو في كل ذلك حقيقة لم يخرج عن موضوعه ويستعمل في غيره ، والعجب أنك صرحت في آخر كلامك بأنه موضوع لصلاحيته لذلك كله ، فدل على أنه ليس بموضوع للعموم ، فبطل قولك : إنه موضوع لجميع الجنس ، بقولك : إنه موضوع لأن يكون صالحا للواحد والاثنين والقليل والكثير ، وهذا هو الحق وهو ينفي المجاز ويبين أنه حقيقة في الجميع ، وهذا الذي يعقله بنو آدم .

وأما استدلالك على ذلك بأعمال الفعل فيه فمن أعجب العجب فإنه يعمل في المرة الواحدة والمرتين والمرات والمطلق والعام ، فإن كان إعماله في العام ، نحو : يظنان كل الظن ، وبابه دليل على أنه موضوع له ، فهل كان إعماله في الخاص دليلا على أنه موضوع له ، فما خرج عن موضوعه حيث أعمل ، وهذا ظاهر بحمد الله .

الوجه السابع : قول أبي علي : إن قام زيد ، بمنزلة : خرجت فإذا الأسد ، تعريفه هنا تعريف جنس ، كقولك الأسد أشد من الذئب ، وأنك لا تريد خرجت وجميع الأسد التي يتناولها الوهم على الباب ، وإنما تريد فإذا واحد من هذا الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا خطأ منه ووهم ظاهر ينقض آخر كلامه فيه أوله ، فإنه صرح أولا بأن التعريف المذكور هنا تعريف الجنس ، وهذا حق .

فإن التعريف ثلاثة أنواع تعريف الشخص ، وتعريف الجنس ، وتعريف العموم ، وليس المراد تعريف الشخص ولا تعريف العام قطعا ، وكل واحد من هذه الأنواع حقيقة فيما استعمل فيه ، وليس [ ص: 344 ] لفظ الأسد في قولك خرجت فإذا الأسد لفظ جماعة وضع على الواحد حتى يكون مجازا فإن اسم الجنس المعرف باللام لم يوضع للجماعة حتى يكون استعماله في الواحد المطلق مجازا ، ولو كان استعماله في التعريف المطلق مجازا لكان استعماله في التعريف الشخصي أولى بالمجاز لأنه أبعد عن العموم من تعريف الجنس ، فيكون كل اسم معرف باللام التي للعهد وللجنس مجازا وهذا لا يقوله من يدري ما يقول يوضحه :

الوجه الثامن : أن هذا قلب للحقائق ، فإن الأصل في اللام أن تفيد تعريف الماهية ، فالعهد بها أولى من الجنس لكمال التعريف به ، والجنس أولى بها من العموم لأنها تفيد الماهية الذهنية .

فهي في الحقيقة للعهد الذهني ، فإنه نوعان : شخصي وجنسي ، فالقائل : اشتر اللحم واستق الماء ، يريد باللام تعريف الجنس المعهود بينه وبين المخاطب ، كما أن القائل إذا قال : قال الرجل ، ودخلت البيت ، يريد تعريف الشخص المعهود بينه وبين المخاطب ، فمن ادعى أنهم نقلوا هذا اللفظ من الجمع إلى الواحد فهو مخطئ ، يوضحه :

الوجه التاسع : وهو أن أكثر الناس لا يرون المفرد المعرف باللام من ألفاظ العموم بحال ، وإنما يثبتون العموم للجمع المعرف باللام ، سواء كان جمع قلة نحو المسلمين والمسلمات ، أو جمع كثرة نحو الرجال والعباد ، فالأسد بمنزلة الرجل ، وإذا كان ليس من ألفاظ العموم فلم يوضع في غير موضعه ، ولا استعمل إلا في موضوعه ، ومن يجعله للعموم من أهل الأصول والفقهاء يقولون : إنما يكون للعموم حيث يصلح أن تخلف اللام فيه كل ، نحو قوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر ) ونحو قوله : ( إن الإنسان خلق هلوعا ) ولهذا صح الاستثناء منه ، وذلك حيث لا يكون عهد القرينة والسياق دالا على إرادة جميع أفراد الجنس .

وهذا منتف في قوله ( خرجت فإذا الأسد ) فهو إنما يدل على العموم بقرينة ، كما يدل على العهد بقرينة ، فدعوى المجاز في بعض موارده دون بعض ، تحكم بارد لا معنى له ، ودعوى المجاز في جميعها باطل ، فلم يبق إلا أنه حقيقة حيث استعمل ، وهو الصواب .

الوجه العاشر : قوله : ( خرجت فإذا الأسد ) اتساع وتوكيد وتشبيه ، أما الاتساع فإنه وضع اللفظة المعتادة للجماعة على الواحد ، وأما التوكيد فلأنه عظم قدر ذلك الواحد بأن جاء باللفظة على اللفظ المعتاد للجماعة ، وأما التشبيه فلأنه شبه الواحد بالجماعة .

[ ص: 345 ] ثم قال : وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد ، وجاء الليل وانصرم النهار خطأ من وجهين : أحدهما : أنه مبني على أن الأسد دل على الجمع ، وأنه تجوز فاستعمله في الواحد ، وقد عرفت ما فيه ، الثاني : أنه لو صح له ذلك لم يكن قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء الليل مثله ، فإن هذه الأفعال لا تدل على قعود وانطلاق ومجيء عام لكل فرد البتة ، بحيث يكون استعمالها فيمن وجد منه بعض ذلك الجنس مجازا ، فليس ثم دلالتان عامة وخاصة بخلاف الأسد ، فإنه يمكن تقدير دلالته عامة وخاصة له ، فإذا استعمل في أحدهما يكون استعماله له في غير مدلوله الآخر ، فكيف يمكن مثل ذلك في الأفعال ؟ فهل يعقل ذو تحصيل لقام وقعد وانطلق دلالتين قط عامة وخاصة ، وليس العجب من تسويد الورق بهذا الهذيان ، وإنما العجب من أذهان تقبله وتستحسنه .

الوجه الحادي عشر : قوله : وكذلك أفعال القديم نحو : خلق الله السماوات والأرض وما كان مثله .

فيقال : الله أكبر كبيرا ، وسبحان الله عما يقوله الجاحدون لخلقه وربوبيته ، وتعالى علوا كبيرا ، وقبح الله قولا يتضمن أن يكون خالقا مجازا لا حقيقة ، وأن يكون خلق الله السماوات والأرض مجازا لا حقيقة ، ومن هنا قال السلف الذين بلغتهم مقالة هؤلاء إنهم شر قولا من اليهود والنصارى ، وقالوا : إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام هؤلاء ، وقالوا : إنهم مليشون معطلون نافون للمعبود عز وجل " مليشون " أي : يصفونه بصفة لا شيء .

الوجه الثاني عشر : أن المجاز لا بد أن يكون له استعمال في الحقيقة أو وضع سابق ، وإن لم يستعمل عند القائلين به ، فيكون للفظ جهتان : جهة حقيقة ، وجهة مجاز ، كالأسد والحمار ونحو ذلك ، يتجوز به من حقيقته التي وضع لها أولا إلى مجازه الذي استعمل فيه ثانيا لعلاقة بينهما ، فأين سبق لقولنا خلق الله السماوات والأرض ، وعلم الله ما تكسب كل نفس استعماله في غير هذا المفهوم ليكون إطلاقه عليه بطريق المجاز ، فلم يستعمل خلق إلا في موضوعه الأصلي ولا اسم الله إلا في موضوعه ، ولا السماوات والأرض إلا في موضوعهما ، فإما أن يكون هذا القائل يرى المجاز في النسبة كما يختاره جماعة من الناس ، أو ليس ممن يرى المجاز في النسبة ، فإن لم ير في النسبة مجازا ، فالمفردات مستعملة في موضوعاتها ، ولا مجاز في النسبة فكيف [ ص: 346 ] يكون خلق الله مجازا ، أو إن كان ممن يرى المجاز في النسبة ، كأنبت الماء البقل ، فأضاف الإنبات إلى الماء وليس له في الحقيقة ، فهذه النسبة في قولنا خلق الله أصدق النسب الحقيقية التي إن كانت مجازا لم يتصور أن يكون في الكلام نسبة حقيقة البتة ، لا في القديم ولا في الحديث ، وهذا من أعظم الضلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية