الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجء إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافا للصالحين منهم ، واعترافا بفضلهم ، وتبشيرا لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم ، ومثل الحواريين ، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب ، فقد وفت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة ، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب ، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده .

فمجيء ( إن ) هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود فإن كثيرا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلت كانوا مثلهم في الضلال . ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة [ ص: 532 ] قبر القديس بطرس توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبينت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه السلام .

وابتدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهل الخير إلا ويذكرون معهم ، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء لكن الراسخون في العلم منهم أي الذين هادوا والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك الآية ، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن .

والذين هادوا هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما نذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا ، ومعنى هادوا كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود .

وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل ، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة 975 قبل المسيح ؛ فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه أورشليم ، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعا نجيبا فملكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته السامرة ، وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة 120 قبل المسيح ، مسيحية في زمن الإمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط .

ولعل هذا وجه اختيار لفظ الذين هادوا في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم [ ص: 533 ] الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا . ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة قال تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء الآية ويقال تهود إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وأما في سورة الأعراف من قول موسى إنا هدنا إليك فذلك بمعنى المتاب .

وأما النصارى فهو اسم جمع نصري بفتح فسكون ، أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النصري فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى . وأما قوله ( والصابين ) فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة في آخره ، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ ، وصابئ لعله اسم فاعل صبأ مهموزا أي ظهر وطلع ، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبا يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى .

وزعم بعض علماء الإفرنج أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ . وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن .

وقيل إنما خفف نافع همزة الصابين فجعلها ياء مثل قراءته سال سايل . ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك .

والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي دائرة المعارف الإسلامية [ ص: 534 ] أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو ( ص ب ع ) أي غطس عرفت به طائفة المنديا وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى ، ويقال الصابئون بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة . وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حران من بلاد الجزيرة .

وكان أهل هذا الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم . وكذلك منع الروم أهل الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من النصارى ينتمون إلى النبي يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه أغاثا ديمون ، والنصارى يسمونهم يوحناسية نسبة إلى يوحنا وهو يحيى .

وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد الاتجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة والأخذ بالفضائل الجزئية المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة وتجنب الرذائل الجزئية وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة .

[ ص: 535 ] ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق . ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح . وهم يقولون إن المعلمين الأولين لدين الصابئة هما أغاثا ديمون وهرمس وهما شيث بن آدم . وإدريس ، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وأفلاطون وأرسطاطاليس ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إله الآلهة .

وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم .

ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم ، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراءاتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ .

ولهم صيام ثلاثين يوما في السنة ، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام .

ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض . وتحرم العزوبة ، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة . ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض . ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر بكاف وميم وراء . وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة ، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحرنانية بنونين نسبة إلى حران على غير قياس كما في القاموس . قال ابن حزم في كتاب الفصل : كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه السلام بالحنيفية اهـ .

[ ص: 536 ] ودين الصابئة كان معروفا للعرب في الجاهلية ، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة .

ألا ترى أنه لما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفه المشركون بالصابئ وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أم النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبيء ورث ذلك منه وكذبوا . وفي حديث عمران ابن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ونفد ماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها انطلقي إلى رسول الله فقالت الذي يقال له الصابئ قالوا هو الذي تعنين . وساق حديث تكثير الماء .

وكانوا يسمون المسلمين الصباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ ، أنه كان صديقا لأمية بن خلف . وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة وقال لأمية انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال سعد فقال له أبو جهل ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة .

وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا الحديث .

وقد قيل إن قوما من تميم عبدوا نجم الدبران . وأن قوما من لخم وخزاعة عبدوا الشعرى العبور ، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان . وأن قوما من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في الكشاف في تفسير سورة فصلت في قوله تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر قال لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنهوا عن ذلك .

وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة ، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس ، وقال البيضاوي : هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب ، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس ، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه [ ص: 537 ] أحوالهم وتكتمهم في دينهم ، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم . فالقسم الذي تغلب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية ، والذين غلب عليهم الروم اختلط دينهم بالنصرانية . قال ابن شاس في كتاب الجواهر الثمينة : قال الشيخ أبو الطاهر : يعني ابن بشير التنوخي القيرواني : منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية ولا شك أنه يعني صابئة العراق ، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية .

وفي التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي في باب الذبائح قال الطرطوشي : لا تؤكل ذبيحة الصابئ وليست بحرام كذبيحة المجوسي وفيه في باب الصيد قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته .

وفي شرح عبد الباقي علي خليل " إن أخذ الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي ، وعن مالك لا يتزوج المسلم المرأة الصائبة " . قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة ، روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل كتاب ، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب . وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حران يعبدون الكواكب ، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعا . قال الجصاص : الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران ، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط . وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم نصارى تقية ، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنا سية وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء ، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى .

ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب ، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس اهـ . كلامه . [ ص: 538 ] ووجه الاقتصار في الآية ، على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك ، فلذلك اقتصر عليهم تقريبا لهم من الدخول في الإسلام . ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة لأن ذلك مقام تثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .

وقوله تعالى من آمن يجوز أن تكون " من " شرطا في موضع المبتدأ ويكون ( فلهم أجرهم ) جواب الشرط ، والشرط مع الجواب خبر إن ، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم إن لأن من الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم إن ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرعوا بالقوارع السالفة ، وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة . وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن المؤمنين الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون وكالب بن بفنة لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين . ويجوز أن تكون من موصولة ، بدلا من اسم إن ، والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في فلهم أجرهم إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد كتاب سيبويه وقائلة خولان : فانكح فتاتهم ، ونحو إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم عند غير سيبويه . وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فأدخلت الفاء قرينة على ذلك . ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم ، بضرب الذلة [ ص: 539 ] والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله .

وقد استشكل ذكر الذين آمنوا في عداد هؤلاء ، وإجراء قوله من آمن بالله عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل الحاصل ، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون . وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين . وهما جوابان في غاية البعد . وقيل يرجع قوله من آمن بالله واليوم الآخر لخصوص الدين الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن . وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك ، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين : الإيمان والعمل الصالح . والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلا أو بعضا .

ومعنى من آمن بالله ، الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقرينة المقام وقرينة قوله وعمل صالحا إذ شرط قبول الأعمال ، الإيمان الشرعي لقوله تعالى ثم كان من الذين آمنوا وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدى بها يئول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق .

وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران .

وأما القائلون بأنها منسوخة ، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر .

[ ص: 540 ] وقوله تعالى فلهم أجرهم عند ربهم أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة ، وليس أجرا دنيويا بقرينة المقام . وقوله عند ربهم عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا .

ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان ، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده .

وإنما جمع الضمير في قوله أجرهم عند ربهم مراعاة لما صدق من ، وأفرد شرطها أو صلتها مراعاة للفظها ، ومما حسن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع ليكون عودا على بدء فيرتبط باسم إن الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أولا ، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ ، كل من آمن بالله وعمل إلخ ، فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به . فهو من العام الوارد على سبب خاص .

وقوله ولا خوف عليهم قراءة الجمهور بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة .

والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو لا خوف عليهم لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات ، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو [ ص: 541 ] يحزنون لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين .

ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر . واعلم أن قوله فلهم أجرهم مقابل لقوله وباءوا بغضب من الله ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى . وقوله ولا خوف عليهم مقابل وضربت عليهم الذلة لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو ، وأما العزيز فهو شجاع لأنه لا يخشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقوله ولا هم يحزنون مقابل قوله والمسكنة لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمني حسن العيش قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة ، والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية