الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            . ( 1453 ) فصل : ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز . وقال : ستة أوجه أو سبعة يروى فيها ، كلها جائز . وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه ، أو تختار واحدا منها .

                                                                                                                                            قال : أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن ، وأما حديث سهل فأنا أختاره . إذا تقرر هذا فنذكر الوجوه التي بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها ، وقد ذكرنا منها وجهين أحدهما ، ما ذكره الخرقي ، وهو حديث سهل . والثاني حديث ابن عمر ، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة . والثالث ، صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وهو ما روى أبو عياش الزرقي قال { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد . فصلينا الظهر . فقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم في الصلاة . فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر . فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة ، والمشركون أمامه ، فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف ، وصف خلف ذلك الصف صف آخر ، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا ، سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين ، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ، ثم جلسوا جميعا ، فسلم عليهم ، فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سليم } . رواه أبو داود . وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا المعنى . أخرجه مسلم . [ ص: 138 ] وروي عن حذيفة ، أنه أمر سعيد بن العاص بطبرستان حين سألهم : أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . وأمره بنحو هذه الصلاة ، وقال : وتأمر أصحابك إن هاجهم هيج فقد حل لهم القتال والكلام . رواه الأثرم بإسناده .

                                                                                                                                            وإن حرس الصف الأول في الأولى ، والثاني في الثانية ، أو لم يتقدم الثاني إلى مقام الأول ، أو حرس بعض الصف وسجد الباقون ، جاز ذلك كله ; لأن المقصود يحصل ، لكن الأولى فعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . ومن شرط هذه الصلاة أن يكون العدو في جهة القبلة ; لأنه لا يمكن حراستهم في الصلاة إلا كذلك ، وأن يكونوا بحيث لا يخفى بعضهم على بعض ، ولا يخاف كمين لهم .

                                                                                                                                            ( 1454 ) فصل : الوجه الرابع ، أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة ، ويسلم بها ، كما روى أبو بكرة : قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر ، فصف بعضهم خلفه ، وبعضهم بإزاء العدو ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ، ثم سلم ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ، ولأصحابه ركعتان } . أخرجه أبو داود ، والأثرم .

                                                                                                                                            وهذه صفة حسنة ، قليلة الكلفة ، لا يحتاج فيها إلى مفارقة الإمام ، ولا إلى تعريف كيفية الصلاة . وهذا مذهب الحسن ، وليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين .

                                                                                                                                            ( 1455 ) فصل : الوجه الخامس أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ، ولا يسلم ، ثم تسلم الطائفة ، وتنصرف ولا تقضي شيئا . وتأتي الطائفة الأخرى ، فيصلي بها ركعتين ، ويسلم بها ، ولا تقضي شيئا . وهذا مثل الوجه الذي قبله ، إلا أنه لا يسلم في الركعتين الأوليين ; لما روى جابر ، قال { : أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع . فذكر الحديث . قال : فنودي بالصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . قال : وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وتأول القاضي هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم كصلاة الحضر ، وأن كل طائفة قضت ركعتين . وهذا ظاهر الفساد جدا ; لأنه يخالف صفة الرواية ، وقول أحمد ، ويحمله على محمل فاسد .

                                                                                                                                            أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ، ولم يذكر قضاء ، ثم قال في آخرها : وللقوم ركعتين ركعتين . وأما قول أحمد ، فإنه قال : ستة أوجه أو سبعة ، يروى فيها ، كلها جائز . وعلى هذا التأويل لا تكون ستة ولا خمسة . ولأنه قال : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو جائز . وهذا مخالف لهذا التأويل . وأما فساد المحمل ، فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها ، كما قال الله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } .

                                                                                                                                            وعلى هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعا . ويتم الصلاة المقصورة ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم صلاة السفر ، فكيف يحمل هاهنا على أنه أتمها ، في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف .

                                                                                                                                            ( 1456 ) فصل : الوجه السادس ، أن يصلي بكل طائفة ركعة ، ولا تقضي شيئا ; لما روى ابن عباس ، قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف ، والمشركون بينه وبين القبلة ، فصف صفا خلفه ، وصفا موازي العدو ، [ ص: 139 ] فصلى بهم ركعة ، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم عليهم ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ، وكانت لهم ركعة ركعة . } رواه . الأثرم

                                                                                                                                            وعن حذيفة ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة ، وبهؤلاء ركعة ، ولم يقضوا شيئا } . رواه أبو داود . وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة . رواهن الأثرم . وكذلك قال أبو داود ، في " السنن " ، وهو مذهب ابن عباس ، وجابر . قال : إنما القصر ركعة عند القتال .

                                                                                                                                            وقال طاوس ، ومجاهد ، والحسن وقتادة ، والحكم كذا يقولون : ركعة في شدة الخوف ، يومئ إيماء . وقال إسحاق : يجزئك عند الشدة ركعة ، تومئ إيماء ، فإن لم يقدر فسجدة واحدة ، فإن لم يقدر فتكبيرة ، لأنها ذكر لله تعالى . وعن الضحاك ، أنه قال : ركعة ، فإن لم يقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهه .

                                                                                                                                            فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها ; لأنه ذكر ستة أوجه ، ولا أعلم وجها سادسا سواها ، وأصحابنا ينكرون ذلك . قال القاضي : لا تأثير للخوف في عدد الركعات . وهذا قول أكثر أهل العلم ; منهم ابن عمر ، والنخعي ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار ، لا يجيزون ركعة ، والذي قال منهم ركعة ، إنما جعلها عند شدة القتال

                                                                                                                                            والذين روينا عنهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين ، وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ، ولا يعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره ، فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم أولى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية